سلامة القرآن من التحريف
سلامة القرآن من التحريف هي إحدى المسائل العقائديّة التي شدّد الكثير من علماء الشيعة على ضرورتها، كما أنها مورد اتفاق عموم المسلمين، ومعناه أن نعتقد بأنّ القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي أُنزل على رسول الله ، من دون زيادة أو نقيصة أو تغيير.
وقد استدل المفسرون والمتكلمون الشيعة بعدّة أدلّة قرآنيّة وروائيّة وعقليّة على ردّ ادعاء القائلين بالتحريف، وبرأي مفسرِي القرآن الكريم والفقهاء الشيعة فإن القرآن الكريم بترتيبه الحالي هو الذي كان في زمن الرسول .
وقد نسب بعض أهل السنة إلى الشيعة القول بالتحريف، ومن هؤلاء أبو الحسين الخياط المعتزلي وأبو علي الجبائي. ثم تجدّد الإتهام بعد تأليف المحدث النوري كتابه المسمّى ب"فصل الخطاب"، الذي ردّ عليه علماء الشيعة بردود عديدة.
ومن أهم الدلائل النقلية الدالّة على عدم تحريف القرآن الكريم هي: حديث الثقلين، والروايات الواردة في ثواب قراءة السور القرآنية وخواصها، والروايات التي يُحسم بها الخلاف في المسائل الدينية، وآيات التحدي.
التحريف لغةً واصطلاحاً
- المعنى اللغوي: التحريف من "حَرَفَ" تأتي بمعنى الانحراف عن الشيء. يُقال: انحرف عنه ينحرف انحرافاً، وحَرَفْتُه أنا عنه، أي عدلت به عنه، وذلك كتحريف الكلام وهو عدله عن جهته. قال الله تعالى: ﴿يُحَرِّفُون الكَلم عن مَواضِعه﴾[١] فالتحريف لغةً هو: تغيير معنى الكلمة والعدول بها عن مقصدها الحقيقي.
- المعنى الاصطلاحي: هو وقوع التغيير في ألفاظ القرآن وحروفه وحركاته، تبديلاً وترتيباً،ونقصاً وزيادةً.[٢]
وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم استخدم مفهوم التحريف بمعناه اللغوي، في حين أنّ محور بحث صيانة القرآن عن التحريف يختصّ بالتحريف بمعناه الاصطلاحي فقط.
أقسام التحريف
يوجد هناك عدّة أقسام لتحريف القرآن، وهي:
- التحريف المعنوي: وهو المعنى اللغوي للتحريف نفسه، ويُراد به: تفسير القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه. وهو ما أشارت إليه الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "... وكان من نبذهم الكتاب: أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يُحزنهم تركهم للرعاية...".[٣]
- التحريف اللفظي: وهو التغيير والقلب، وهو المعنى الاصطلاحي نفسه. وله مصاديق مختلفة. [٤]
وأهم مصاديقه:
- تحريف القرآن بالنقص منه
- تحريف القرآن بالزيادة عليه
أهمّيّة إثبات صيانة القرآن عن التحريف
إنّ لإثبات مسألة صيانة القرآن عن التحريف آثار وفوائد مهمّة وحسّاسة، أبرزها:
- إمكانية الاستفادة من القرآن؛ لأنّه مع ثبوت التحريف لا يمكن الاستدلال بالقرآن أو الاستنباط منه.
- إثبات النبوّة والرسالة؛ لأنّ فرض ثبوت التحريف يستلزم نفي الإعجاز والتحدّي بالإتيان بمثل القرآن، وبالتالي انتفاء صفة الإعجاز عن الأمر الرئيس المُثبِت لنبوّة النبي وحقّانيّة رسالته.
- إنّ القرآن ميزان اعتبار الروايات وقد أمرنا أهل البيت عليهم السلام بعرضها على القرآن، وبثبوت تحريفه؛ لا يمكن عرض الروايات عليه؛ فيتعطّل بذلك الأخذ بها.
آراء علماء الشيعة الإماميّة في المسألة
من المتسالم لدى علماء الشيعة الإماميّة عدم وقوع التحريف في القرآن لا بالزيادة ولا بالنقيصة، وأنّ الموجود ما بين أيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول الأكرم ، وقد صرّح بذلك كثير من كبار أعلام الشيعة الإماميّة، منهم:
- الشيخ محمد بن بابويه الصدوق القمي (ت: 381هـ): "اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك. ومن نسب إلينا أنّا نقول: إنّه أكثر من ذلك، فهو كاذب"[٥].
- السيد المرتضى علم الهدى (ت: 436هـ): "إنّ العلم بصحّة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت، والدواعي توافرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه في ما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية. وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كلّ شيء اختُلِفَ فيه،من إعرابه، وقراءته، وحروفه، وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً، مع العناية الصادقة، والضبط الشديد"[٦].
- الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460هـ): "وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه [أي القرآن] فمّما لا يليق به أيضاً،لأنّ الزيادة فيه مُجمَع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا"[٧].
- الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548هـ): "الكلام في زيادة القرآن ونقصانه؛ فإنّه لا يليق بالتفسير. فأمّا الزيادة فيه: فمجمع على بطلانه.
وأما النقصان منه: فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه"[٨].
- الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت: 1228هـ): "لا ريبَ في أنّه مَحفوظ من النقصان؛ بحفظ الملك الديّان؛ كما دلّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر. وما ورد من أخبار النقيصة تَمنع البديهة من العمل بظاهرها، ولا سيّما ما فيه نقص ثلث القرآن، أو كثير منه، فإنّه لو كان ذلك؛ لتواتر نقله لتوفّر الدواعي عليه، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله. ثمّ كيف يكون ذلك، وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه"[٩].
- الشيخ محمد جواد البلاغي (ت: 1352هـ): "وممّا ألصقوه بالقرآن المجيد: ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب دبستان المذاهب أنّه نُسِبَ إلى الشيعة أنّهم يقولون: إنّ إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام؛ منها: هذه السورة، وذكر كلاماً يضاهي خمساً وعشرين آية في الفواصل، قد لُفِّقَ من فقرات القرآن الكريم على أسلوب آياته، فاسمع ما في ذلك من الغلط، فضلاً عن ركاكة أسلوبه الملفَّق... فيا للعجب من صاحب (دبستان المذاهب) من أين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة، وفي أيّ كتاب لهم وجدها. أفهكذا يكون النقل في الكتب، ولكن لا عجب، فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب؛ كما في كتاب الملل للشهرستاني، ومقدّمة ابن خلدون، وغير ذلك ممّا كتبه بعض الناس في هذه السنين، والله المستعان".[١٠]
- السيد محسن الأمين العاملي (ت: 1371هـ): "لا يقول أحد من الإمامية؛ لا قديماً ولا حديثاً: إنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير، فضلاً عن كلّهم، بل كلّهم متّفقون على عدم الزيادة، ومن يعتد بقوله من محقّقيهم متّفقون على أنّه لم ينقص منه".[١١]
- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت: 1373هـ): "والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فإمّا أن تأوّل بنحو من الاعتبار، أو يُضرَب بها الجدار".[١٢]
- السيد عبد الحسين شرف الدين (ت: 1377هـ): "والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنّما هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، لا يزيد حرفاً، ولا ينقص حرفاً، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة، ولا لحرف بحرف، وكلّ حرف من حروفه متواتر في كلّ جيل؛ تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوة"[١٣].
- السيد محمد حسين الطباطبائي (ت: 1402هـ): "من ضروريات التاريخ: أنّ النبي العربي محمّداً جاء قبل أربعة عشر قرناً تقريباً، وانتهض للدعوة، وآمن به أمّة من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن، وينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف، وكلّيّات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به، ويعدّه آية لنبوته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة؛ بمعنى: أنّه لم يَضِعْ مِن أصله؛ بأن يُفقَد كلّه، ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه، وينسب إليه، ويشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبي . فهذه أمور لا يَرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه، ولا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين"[١٤].
- الإمام الخميني (ت: 1410هـ): "منع وقوع التحريف فيه جدّاً (أي في القرآن)، كما هو مذهب المحقّقين من علماء العامّة والخاصّة... وبالجملة: ففساد هذا القول الفظيع(أي القول بالتحريف)، والرأي الشنيع، أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلا أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم[وجود] علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيد الأنام"[١٥].
- السيد أبو القاسم الخوئي (ت: 1413هـ): "المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن، وأنّ الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم ؛ وقد صرّح بذلك كثير من الأعلام... وجملة القول: أنّ المشهور بين علماء الشيعة ومحقّقيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف... والحق، بعد هذا كلّه: أنّ التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلاً"[١٦].
أدلّة صيانة القرآن من التحريف
ذكر الباحثون في علوم القرآن والمفسّرون أدلّة عدّة على صيانة القرآن من التحريف، أبرزها التالي:
الدليل القرآني
- 1. قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[١٧]. من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذِكْر لله، فإنّه يذكِّر به تعالى، بما أنّه آية دالّة عليه، حيّة خالدة. وتفيد هذه الآية أنّ الله تعالى هو حافظ هذا القرآن في مرحلتي التنزيل والبقاء، حيث أُطلِقَ الذِكْر وأُطلِقَ الحِفظ، فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذِكريّة ويُبطِل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه. وقد وُضِعَت كلّ عوامل التأكيد بعضها إلى جانب بعضها الآخر، لبيان هذه الحقيقة المهمّة والخالدة[١٨].
- 2. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[١٩]. العزيز: عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يُغلَب، والمعنى الثاني أنسب، لما يتعقّبه من قوله تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ...﴾. والمدلول هو: أنّه لا تناقض في بياناته، ولا كذب في أخباره، ولا بطلان يتطرّق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يُعارَض ولا يُغيَّر، بإدخال ما ليس منه فيه، أو بتحريف آية من وجه إلى وجه. وكيف لا يكون كذلك؟! وهو منزَّل من حكيم متقِن في فعله، لا يشوب فعله وهن، محمود على الإطلاق. فهذه الآية تنفي أيّ احتمال للتحريف بالزيادة أو التحريف بالنقصان، وتشير إلى أنّ خاصّيّة الحفظ جاءت من داخل القرآن، بفعل تماسك بنيانه[٢٠].
وغيرهما آيات كثيرة تدلّ على صيانة القرآن عن التحريف[٢١].
في جدوى الاستدلال بالقرآن الكريم على عدم تحريفه
لقائل أن يقول: إنّ الاستدلال بالقرآن الكريم على عدم حصول تحريف فيه، لا يصحّ إلا إذا ثبت أنّ ما يُستدلّ به من آيات هي من القرآن، فمن أين نعلم أنّها من القرآن، وأنّها ليست محرّفة؟
والجواب عنه:
- إنّ مدّعي التحريف لا يذهب إلى القول بالتحريف بالزيادة. وعليه، فإنّ عدم الزيادة في القرآن أمر متّفق عليه، فيمكن عندها الاستدلال بالقرآن نفسه على صيانته عن التحريف.
- عدم ورود هذه الآيات في النصوص التي ادّعي دلالتها على التحريف.
- إنّ الآيات الدالّة على صيانة القرآن عن التحريف تثبت عدم وجود نقص في القرآن أيضاً - بعد التسليم بعدم الزيادة في القرآن الكريم- ولازم ذلك صيانة القرآن عن التحريف مطلقاً.
الدليل الروائي
- روايات الثقلين[٢٢]: ومفاد هذه الروايات: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما، لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". ووجه الاستدلال بها:
أنّ القول بالتحريف يستلزم عدم وجوب التمسّك بالكتاب المنزل، لضياعه على الأمّة، بسبب وقوع التحريف، ولكن وجوب التمسّك بالكتاب باقٍ إلى يوم القيام، لصريح حديث الثقلين، فيكون القول بالتحريف باطلاً جزماً. وقد دلّت هذه الروايات على اقتران العترة بالكتاب، وعلى أنّهما باقيان في الناس إلى يوم القيامة، فلا بدّ من وجود شخص يكون قريناً للكتاب، ولا بدّ من وجود الكتاب ليكون قريناً للعترة، حتى يردا على النبي الحوض، وليكون التمسّك بهما حفظا للأمّة عن الضلال[٢٣].
- روايات التمسّك بالقرآن[٢٤]: حيث توصينا هذه الروايات بالرجوع إلى القرآن عند الفتن والشدائد، وتصف القرآن بأنّه ملاذ حصين. فإذا كان الكتاب نفسه لم يسلم من فتن الزمان، فكيف يمكنه حماية الآخرين من أضرار الفتن؟
- روايات العرض على القرآن[٢٥]: وردت روايات عن أهل البيت عليهم السلام جاء فيها: "إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"، "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"، "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف"، "اعرضوها (أي الروايات) على كتاب الله، فما وافى كتاب الله عزّ وجلّ، فخذوه، وما خالف كتاب الله، فردّوه".
ويفهم من مجموع هذه الروايات أنّ القرآن هو الميزان الحقّ الذي يعتمد عليه في كشف الحقّ من الباطل والتمييز بينهما. وعليه، فكلّ رواية تشير إلى تحريف القرآن، إذا تعذّر تأويلها وتوجيهها، تكون باطلة وموضوعة ولا اعتبار لها[٢٦].
- أمر الأئمّة عليهم السلام بقراءة سورة كاملة بعد الفاتحة في الصلاة: فلو كان القرآن محرّفاً، لما صحّ الأمر بالقراءة منه، ولكان الأمر بالقراءة منه لغواً وتكليفاً بغير المقدور للمكلّف. وهذا ما لا يلتزم به القائلون بالتحريف[٢٧].
نعم، إنّ هذه الروايات لا تنهض بنفي دعوى وقوع نقص في القرآن بسورة كاملة أو أكثر من سورة.
- روايات تلاوة القرآن وفضلها وثوابها[٢٨]: إنّ مجموع هذه الروايات يفيد أنّ القرآن الموجود بين أيدينا غير محرّف، وإلا لكانت هذه الروايات لغواً، غير مقدور تحصيل ثوابها للمكلّف[٢٩].
- روايات صيانة القرآن عن التحريف المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام: حيث تدلّ هذه الروايات على صيانة القرآن عن التحريف، ومنها:
- ما روي عن الإمام الصادق : "ما بين الدفتين قرآن"[٣٠].
- ما روي عن الإمام العسكري : "اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الإجماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون..."[٣١].
الدليل العقلي
ذكر الباحثون والمحقّقون في مجال علوم القرآن والتفسير عدّة تقريبات للدليل العقلي على صيانة القرآن عن التحريف[٣٢]. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التقريبات ليست عقليّة بحتة، لأنّها تتضمّن مقدّمات متسالم عليها بين المسلمين. ومن هذه التقريبات: التقريب التالي، وهو يتألّف من مقدّمات عدّة، هي:
- إنّ القرآن كتاب هداية للعالمين.
- القرآن كتاب خاتم، كما أنّ الرسول رسول خاتم.
- إذا حرّف القرآن يترتّب على ذلك إضلال الناس.
- مقتضى حكمة الله تعالى أن ينزّل كتاباً آخر ويُرسل رسولاً آخر، وهذا يلزم منه: إمّا تكذيب الله سبحانه، لأنّه أخبر بأنّ الرسول هو خاتم الرسل ورسالته خاتمة الرسالات، وإمّا نسبة الجهل إليه تعالى على فرض اكتشافه ضرورة إرسال نبي آخر ورسالة أخرى.
النتيجة: إذن، القرآن لم يحرّف.
الإعجاز القرآني
ويقوم هذا الدليل على مقدّمات عدّة[٣٣]، هي:
- ثبوت التحدّي بالقرآن تاريخياً في عصر الرسالة والدعوة.
- القرآن الموجود بين أيدينا هو في الجملة القرآن الموجود في عصر الدعوة.
- مواصفات القرآن الموجود بين أيدينا هي نفسها المواصفات المنقولة عن القرآن الموجود في عصر الدعوة، لجهة التحدّي بالوجوه الإعجازية المختلفة.
- لو كان القرآن الموجود بين أيدينا محرّفاً، لما انطبقت عليه هذه الصفات والوجوه الإعجازية.
النتيجة: إذن القرآن لم يحرّف.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الدليل لا ينهض بمفرده في إثبات عدم وقوع التحريف بالنقيصة، وإن كان يثبت عدم وقوع التحريف بالزيادة. وعليه، يمكن أن يُتمَّم هذا الدليل بضميمة ما ثبتت قرآنيّته من الآيات الدالّة على صيانة القرآن عن التحريف مطلقاً.
الشواهد التاريخية
يوجد شواهد تاريخية كثيرة تدلّ بوضوح على صيانة القرآن الكريم عن التحريف[٣٤]، منها:
- من ضروريات التاريخ: أنّ رسول الله جاء قبل أربعة عشر قرناً تقريباً وانتهض للدعوة، وآمن به أمّة من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتاب هو القرآن، وينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف، وكلّيّات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به، ويعدّه آية لنبوته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له.
- توافر الدواعي على نقله وحراسته وصيانته، لأنّ القرآن معجزة النبوة ودليل الرسالة الخاتمة، ولا سيما في وجه أصحاب البدع والتحريف، الذين يترصّدون شرّاً بالإسلام والقرآن.
- شدّة عناية المسلمين بحفظ القرآن وتلاوته، وضبطهم الشديد في هذا الصدد.
- لو كان القرآن محرّفاً، لاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله.
- وجود بعض الأخطاء في رسم المصحف حتى يومنا هذا، مع التفات المسلمين لها بعد توحيد المصاحف، يدل على شدّة عنايتهم بحفظ القرآن وعدم المساس به.
الهوامش
- ↑ ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج 2، مادّة"حرف"، ص 42 - 43؛ النساء: 46.
- ↑ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 108؛ الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 198 - 190.
- ↑ الكليني، الكافي، ج 8، كتاب الروضة، ح 16، ص 53.
- ↑ الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 197 - 198؛ معرفة، صيانة القرآن الكريم من التحريف، ص 13-16.
- ↑ ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين (الصدوق): الاعتقادات في دين الإماميّة، تحقيق عصام عبد السيد، ط 2، بيروت، دار المفيد، 1414هـ.ق/ 1993م، ص 84.
- ↑ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 43.
- ↑ الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 3.
- ↑ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 42-43.
- ↑ كاشف الغطاء، جعفر: كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، قم المقدّسة، 1422هـ.ق/ 1380هـ.ش، ج 3، ص 453-454.
- ↑ البلاغي، آلاء الرحمن في تفسير القرآن، ج 1، ص 24-25.
- ↑ الأمين، محسن: أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج حسن الأمين، لاط، بيروت، دار التعارف، لات، ج 1، ص 41.
- ↑ كاشف الغطاء، محمد حسين: أصل الشيعة وأصولها، تحقيق علاء آل جعفر، ط1، مؤسّسة الإمام علي عليه السلام، مطبعة ستاره، 1415هـ.ق، ص 220.
- ↑ شرف الدين، عبد الحسين: الفصول المهمّة في تأليف الأئمّة، ط1، لام، نشر قسم الإعلام الخارجي لمؤسّسة البعثة، لات، ص 175.
- ↑ السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 104.
- ↑ الإمام الخميني، روح الله: أنوار الهداية، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ط1، إيران، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، 1413هـ.ق/ 1372هـ.ش، ج 1، ص 243-247.
- ↑ السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 200-207.
- ↑ سورة الحجر، الآية: 9.
- ↑ انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 106، السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 207-209.
- ↑ سورة فصّلت، الآيتان: 41-42.
- ↑ انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 398-399، السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 210-211.
- ↑ قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 2)، ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (السجدة: 2)، ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (يونس: 37)، ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾(الفرقان: 30).
- ↑ تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الروايات متواترة تواتراً معنوياً بين المسلمين، وهي منقولة في كتب السنّة والشيعة. انظر: الصفّار، بصائر الدرجات، ج 8، باب 17 في قول رسول الله "إنّي تارك فيكم الثقلين"، ح 1-6، ص433-434، ابن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص14، النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص148، المتّقي الهندي، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ج 1، ح 943-955، ص 185-187.
- ↑ انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 211، السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 107.
- ↑ انظر: الشيخ الكليني، الكافي، ج2، كتاب فضل القرآن، باب في تمثّل القرآن وشفاعته لأهله، ح 1-14، ص 598-602.
- ↑ انظر: الشيخ الكليني، الكافي، ج1، المقدّمة، ص8، كتاب فضل العلم، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح 1-5، ص 69.
- ↑ انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 107-108.
- ↑ انظر: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 214-215.
- ↑ انظر: الشيخ الكليني، الكافي، ج2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ح 1-11، ص 603-606، باب من يتعلّم القرآن بمشقّة، ح 1-3، ص 606-607، باب ثواب قراءة القرآن، ح 1-7، ص 611-613، وما يليها.
- ↑ انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 108.
- ↑ انظر: مجموعة من المحدّثين: الأصول الستّة عشر، أصل حسين بن عثمان بن شريك العامري، ط2، قم المقدّسة، دار الشبستري للمطبوعات، مطبعة مهديه، 1405/ 1363هـ.ش، ص 111.
- ↑ انظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن: الاحتجاج، تعليق محمد باقر الخرسان، لاط، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386هـ.ق/ 1966م، ج 2، ص 251.
- ↑ انظر: المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، ص37، السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 43-45.
- ↑ انظر: السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 104-107.
- ↑ انظر: الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 43، السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 104، السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 200 -207، المحمّدي، سلامة القرآن من التحريف، ص 34-36.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، بيروت، دار صادر، د.ت.
- ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 هـ.
- الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق: حسن الأمين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1403 هـ/ 1983 م.
- البلاغي، محمد جواد، آلاء الرحمن في تفسير القرآن، صيدا، مطبعة العرفان، 1352 هـ/ 1933 م.
- الخميني، روح الله، أنوار الهداية، تحقيق ونشر: مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، د.م، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، 1413 هـ.
- الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، الاعتقادات في دين الإماميّة، تحقيق: عصام عبد السيد، بيروت، دار المفيد، ط 2، 1414 هـ/ 1993 م.
- الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تصحيح وتعليق وتقديم: حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1404 هـ/ 1984 م.
- الصفّار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، تصحيح وتعليق وتقديم: حسن كوچه باغي، طهران، منشورات الأعلمي، 1404 هـ.
- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي، د.ت.
- الطبرسي، الفضل بن الحسن، الاحتجاج، تعليق: محمد باقر الخرسان، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386 هـ/ 1966 م.
- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، ط 1، 1415 هـ/ 1995 م.
- الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل أي القرآن، تقديم: خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطّار، بيروت، دار الفكر، 1415 هـ/ 1995م.
- الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد قصير العاملي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، 1409 هـ.
- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط 4، 1365 هـ.ش.
- المتّقي الهندي، علي، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير: بكري حياني، تصحيح وفهرسة: صفوة السقا، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 هـ/ 1989 م.
- المحمّدي، فتح الله (نجارزادكان)، سلامة القرآن من التحريف وتفنيد الافتراءات على الشيعة الإماميّة...، طهران، نشر مؤسّسة فرهنكي وهنري مشعر، 1424 هـ.
- النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، د.م، د.ن، د.ت.
- دروس قرآنية. سلسلة المعارف الاسلامية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط 6، آب 2009 م/ 1430 هـ.
- كاشف الغطاء، جعفر، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، 1422 هـ/ 1380 هـ.ش.
- كاشف الغطاء، محمد حسين، أصل الشيعة وأصولها، تحقيق علاء آل جعفر، مؤسّسة الإمام علي عليه السلام، مطبعة ستاره، ط 1، 1415 هـ.
- مجموعة من المحدّثين، الأصول الستّة عشر، أصل حسين بن عثمان بن شريك العامري، ط 2، قم، دار الشبستري للمطبوعات، ط 2، 1405 هـ/ 1363 هـ.ش.