| |
| |
| |
| |
المحكم والمتشابه من مصطلاحات علوم القرآن، فبناءً على ما ذُكر في الآية السابعة من سورة آل عمران قُسّمت آيات القرآن إلى قسمين: محكم ومتشابه، فالمحكم يُطلق على الآيات التي تعكس معناها بوضوح، لدرجة أنها لا تحتمل معنًى آخر. أما المتشابه فهو الآيات التي يحتمل ظاهر لفظها عدة معانٍ مختلفة. ويعتقد بعض أهل السنّة أنّ المتشابه ممّا استأثر الله بعلمه، بينما يعتقد أكثر الشيعة أنّ الآيات المتشابهة يمكن فهمها من خلال إرجاعها وعرضها على الآيات المحكمة. وقد ذُكرت أسباب وعلل مختلفة لوجود الآيات المتشابهة في القرآن.
معنى المحكم والمتشابه
يرى أكثر الباحثين في علوم القرآن أنّ المحكم يُطلق على الآيات التي يكون معناها واضحاً بحيث لا يُحتمل معها معنًى آخر للآية، وأنّ المتشابه هو الآيات التي تحتمل عدة معانٍ مختلفة، وهذا الوضوح أو الإبهام قد يكون في كلمة أو حتى في جملة.[١] يقول المفسّر الشيعي ناصر مكارم الشيرازي في توضيح المحكم والمتشابه أنّ المراد من "آياتٌ مُحكَماتٌ" هو الآيات التي يكون مفهومها واضحاً لدرجةٍ لا يبقى مجال معها للبحث والنقاش فيها،[٢] وأنّ المراد من متشابهات القرآن هو الآيات التي بالنظرة الأولية إليها تكون معقّدة وتحمل عدّة معانٍ ممكنة في البداية، غير أنّها بالالتفات إلى الآيات المحكمة تكون واضحة المعنى.[٣] وعليه فإنّ من غير المتيسّر فهم القرآن للجميع، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة والمتخصصين لتوضيح وبيان المحكمات والمتشابهات.[٤]
وتوجد آراء أخرى حول المعنى الاصطلاحي للمحكم منها:[٥]
- أنّ الآيات المحكمة هي الآيات التي تبيّن الحلال والحرام والأوامر والنواهي.
- أنّ الآيات المحكمة هي الآيات التي لم تتعرّض للنسخ، في حين أنّ الآيات المتشابهة هي تلك التي نُسخت.
- المحكم هو الأمر الذي يترتّب عليه ثواب أو عقاب.
- المحكمات هي الآيات التي لم تتكرر ألفاظها.
وفي المعنى الاصطلاحي للمتشابه كذلك أقوال أخرى منها:[٦]
- المتشابه هو القصص والأمثال.
- المتشابه هو ما نؤمن بمعناه الظاهري، ونترك معناه الحقيقي لله سبحانه.
- المتشابه هو فواتح السور والحروف المقطعة.
- المتشابه هو ما لا يُفهم إلا بتأويله وصرفه عن معناه الظاهري.
- المتشابه هو الذي يتضمن ذكر الأمور الغيبيّة ولا يعلمه إلا الله، كوقت يوم القيامة، ووقت نزول المطر، ووقت الموت، وما شابه.
- المتشابه هو الذي يتوقّف فهمه على عرضه على الغير، ولا يمكن فهمه بشكل مباشر وشخصي.
الحكمة من وجود المتشابه في القرآن
بما أنّ الآيات المتشابهة يمكن أن تكون سبباً للفهم المغلوط للقرآن، فيُطرح هذا السؤال: ما هي علة وسبب وجود المتشابه في القرآن؟ وللإجابة عن هذا السؤال طُرحت نظريات وآراء متعددة منها:
يعتقد بعض المتكلمين أنّ وجود المتشابهات يشكل أرضية لمعرفة أدقّ وأعمق للقرآن، فعندما يتحسّس القارئ وجود التشابه بين المطالب؛ يضطر إلى إعمال العقل والرجوع إلى العلماء وأهل الخبرة في الأمر.[٧]
ويعتقد بعض العرفاء أنّه بما أنّ مراتب ودرجات وأحوال السالكين إلى الله مختلفة، فإنّ البعض قد هجر مقام الطبع ووصل إلى مقام النفس، والبعض ارتقوا عن مقام النفس إلى مرتبة العقل وأمثالها، وكذلك الآيات القرآنية قد نزلت متناسبة مع درجات معرفة العباد ومراحلهم السلوكية.[٨]
وقال بعض الفلاسفة أنّ العلة هي وجود بعض المخاطبين بالقرآن من الناس ممّن هم عاجزون عن إدراك العوالم غير المادية، فتأتي في البداية آيات تنسب لله تعالى أعراضاً وصفاتٍ جسمانيّة، وتتناسب مع عالم الوهم والمخيّلة البشرية، ولكن يأتي بجانبها آيات بعنوان المحكمات، تبيّن حقيقة الأمر، وفي هذه الحالة ينتقل عوامّ الناس بالتدريج من إدراك هذا الموجود بتلك الصفات الأوّلية نحو موجود مجرّد وكامل ومُبرّأ من الصفات الإمكانية.[٩]
ويعتبر محمد هادي معرفة أنّ أقوى دليل على ضرورة وجود المتشابهات في القرآن هو عجز الألفاظ والكلمات عن الإيصال الدقيق للمفاهيم، ومن هنا فلا بدّ من استعمال أنواع المجاز والاستعارة والكناية والإشارات الدقيقة وأمثال ذلك، وهذا الذي يؤدي إلى تقريب المفاهيم إلى أذهان عوامّ الناس من جهة، وإبعادها من جهة أخرى. فالقرب من الذهن يكون بسبب الأنس بالألفاظ ووضع المفاهيم القرآنية ضمن القوالب اللفظية، والابتعاد عن الذهن يكون بسبب علوّ المطالب المتضمّنة والمخفيّة في هذه التعابير.[١٠]
أساليب تفسير الآيات المتشابهة
تنوعت طرق وأساليب تعامل المفسرين مع الآيات المتشابهة، وعدّها الملا صدرا في كتابه "متشابهات القرآن" أربعة أساليب تفسيرية رائجة وهي:[١١]
- طريقة النحويّين وأهل الحديث والحنابلة: ويعتقد هذا الفريق أنّ الألفاظ المتشابهة يجب حملها على ظاهرها، ولا يجوز ترك المعنى الظاهر للفظ وإن خالف العقل والقواعد العقلية. وبحسب هذه الرؤية فإنّ أي نوع من التأويل غير مقبول.
- طريقة محقّقي وأكثر متكلمّي المعتزلة: ويؤوّل هذا الفريق ألفاظ المتشابهات، ويحملونها على المعاني المتوافقة مع قواعد العقل، ومبناهم في ذلك تنزيه الله تعالى عن صفات الممكنات وعن أيّ نقص.
- طريقة أكثر الأشاعرة والبعض من المعتزلة: يقول هذا الفريق بالتفصيل، ففي بعض الآيات والروايات عملوا بأسلوب التنزيه، وفي البعض الآخر قاموا بالتشبيه والتنزيل، فكل ما كان مربوطاً بالمعاد أبقوه على ظاهره، وقالوا بالتشبيه.
- طريقة الراسخين في العلم: ويوضح الملا صدرا هذا المسلك بأنّ الراسخين هم الذين يدركون المراد الواقعي من المتشابهات عن طريق الكشف والشهود وإشراق الباطن، وهم من خلال ذلك آمنون من التشبيه المحض والتنزيه الصرف ومن الخلط فيما بينهما، فيمكن كشف معاني المتشابهات عن طريق نورانيّة الباطن ونور النبوّة، فلا ينساق الإنسان وراء الظواهر والتشبيه والتعطيل، ولا يقع كذلك في فخ التأويل.
طريقة أهل البيت في تفسير المتشابهات
نُقل عن الإمام الرضا في كتاب "عيون أخبار الرضا" قوله "مَن رَدَّ مُتَشابِهَ القرآنِ إلى مُحكَمِهِ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ" ثم قال "إِنَّ فِي أَخْبَارِنَا مُتَشَابَهاً كَمُتَشَابَهِ الْقُرْآنِ وَمُحْكَماً كَمُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَرُدُّوا مُتَشَابَهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا وَلَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابَهَهَا دُونَ مُحْكَمِهَا فَتَضِلُّوا ".[١٢] فالملاحظ في كلامهم أنّ معاني كلّ القرآن بما فيه الآيات المتشابهة قابلة للنيل والإدراك، ولكن ينبغي للمتشابهات أن تُفسّر في ظل المحكمات، بخلاف ما يعتقده أصحاب بعض المذاهب الأخرى حين خصّوا الله سبحانه بعلم المتشابه، فلا يوجد في فكر أهل البيت توقّف أمام المتشابهات.[١٣]
ويرى العلامة الطباطبائي أنّ معنى كون المحكمات أمّ الكتاب هو أنّ في لفظ الأم معنًى بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعّض كما في الأمّ وابنها، فلازم اللفظ أنّ المتشابهات تحمل دلالات ترجع وتتفرّع على المحكمات، وبالتالي يلزم كون المحكمات مبيّنات للمتشابهات.[١٤]
الراسخون في العلم
أحد المباحث التي طرحها الباحثون في علوم القرآن في مسألة المحكم والمتشابه هي الآية 7 من سورة آل عمران ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، حيث إن كانت جملة "والراسخون في العلم" في الآية معطوفة على قوله تعالى "وما يعلم تأويله إلا الله" سيكون الراسخون في العلم مطّلعين على تأويل المتشابهات، وأمّا إن كانت جملةً استئنافيةً غير معطوفة على ما قبلها؛ فسيكون الراسخون غير عالمين بالمتشابهات، وإنّما محض مؤمنين بها ويقولون "آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا".
أكثر علماء السنّة على أنّ المتشابه لا يعلمه إلا الله، ولا بدّ من التوقف عند المتشابه، والراسخون في العلم ينتهي علمهم بالتأويل إلى هذا الحد الذي يقولون فيه "آمنا به".[١٥]
وأمّا أكثر علماء الشيعة وبعض علماء السنة[ملاحظة ١] فقد اعتبروا أنّ "الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" معطوفة على "الله" في الآية، وأنهم يعلمون تأويل المتشابهات، واستدلّوا على ذلك بأنّهم إن كانوا كسائر الناس لا يعلمون المتشابهات فلماذا إذاً أثنى عليهم القرآن.
العلامة الطباطبائي اعتبر الواو هنا للاستئناف، وقال بأنّ الآية قد قسّمت الناس إلى قسمين، قسم منهما هم الذين في قلوبهم زيغ وانحراف، ويتّبعون المتشابه لإثارة الفتنة، وقسم هم الراسخون في العلم الذين يسلّمون أمام الآيات المتشابهة ويؤمنون بها، ولكن حتى وإن كانت هذه الآية لا تدلّ على علمهم بالمتشابه، فلا دليل فيها على نفي ذلك، ويمكن إثبات ذلك من آيات أخرى.[١٦]
ويرى الشيعة اعتماداً على بعض الأحاديث أنّ المقصود من الراسخين في العلم هم أهل البيت .[١٧]
الهوامش
- ↑ قرآن در آینه پژوهش، مقاله محکم و متشابه، البوابة الشاملة للعلوم والمعارف القرآنية.
- ↑ مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص396.
- ↑ مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص397.
- ↑ مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج2، ص405.
- ↑ الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دارالمعرفة، ج2، ص79.
- ↑ الزرکشي، البرهان في علوم القرآن، دارالمعرفة، ج2، ص80.
- ↑ القاضي عبد الجبار: المغني، ج16، ص371 و 372.
- ↑ نقلاً عن آشتياني: متشابهات القرآن، ص160 ـ 161.
- ↑ نقلاً عن آشتياني: متشابهات القرآن، ص145.
- ↑ معرفة، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، ج3، ص21.
- ↑ الملا صدرا: متشابهات القرآن، ص76، 77، 79، 90 و 91.
- ↑ صدوق، عیون اخبار الرضا، نشر جهان، ج1، ص290.
- ↑ قرآن در آینه پژوهش، مقاله محکم و متشابه، البوابة الشاملة للعلوم والمعارف القرآنية.
- ↑ الطباطبائي، محمد حسين، المیزان في تفسير القرآن، ج3، ص43.
- ↑ صبحي صالح، مباحث في علوم القرآن، ص282.
- ↑ الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص27-28.
- ↑ البحراني، هاشم، تفسير البرهان، ج1، ص597-599.
الملاحظات
- ↑ مثل مجاهد (ت 103) (قطان، مناع، مباحث في علوم القرآن، ص217) وأبي الحسن الأشعري (ت 360)، وأبي إسحاق الشيرازي (ت 476) و إمام الحرمين الجويني (ت 478). وفي القرون الأخيرة تقبل العديد من علماء أهل السنة هذا الرأي، (صبحي صالح، مباحث في علوم القرآن، ص282).
المصادر والمراجع
- البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار بعثت، قم، د.ت.
- الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار المعرفة، د.ت.
- السيد جلال الدين الآشتياني: متشابهات القرآن، (شرح رسالة الملا صدرا)، مشهد، جامعة فردوسي، د.ت.
- الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، نشر جهان، د.ت.
- القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد و العدل، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة، د.ت.
- القطان، مناع، مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة، بیروت 1421هـ.
- الملا صدرا: متشابهات القرآن، تصحيح الآشتياني، مشهد، جامعة فردوسي، د.ت.
- صبحي صالح، مباحث في علوم القرآن، دار الشريف الرضي، قم 1372ش.
- قرآن در آینه پژوهش، مقالة محکم و متشابه، البوابة الشاملة للعلوم والمعارف القرآنية.
- مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب( ع)، قم، الطبعة الأولى، 1379 هـ ش.