الجاهلية

من ويكي شيعة

الجاهلية، مصطلح قرآني وحديثي يُطلق على الخصائص السلوكية والأخلاقية والعقائدية للفترة التاريخية التي سبقت الإسلام. استعملت كلمة الجهل ومشتقاتها في الشعر العربي قبل الإسلام. ومعنى الجهل في العصر الجاهلي يُشير إلى السلوك والتصرّف ولم تكن مقابل العلم والمعرفة، بل هو عناد وتغطرس في السلوك، حيث يترفّع الفرد عن الانصياع للقدرة والسلطة، سواء كانت إلهية أم بشرية، على حق ٍأم على باطل.

ويستفاد من الأحاديث أنّ النبی محمدا صلی الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يتحيّنون الفرص لإصلاح الفكر والسلوك الجاهلي وإزالة الثقافةالجاهلية. وكانوا يُخطّئون أسسها وأصولها حيناً ويُبيّنون مصاديقها وينتقدونها حيناً آخر.

وقد ورد في الأحاديث أنّ عدم المعرفة بالإمام يساوي الجهل، ويؤكّد الحديث أن الشخص الجاهل بـإمام زمانه يموت ميتة الجاهلية.

في القرآن

وردت كلمة الجاهلية أربع مرات في السور المدنية بالتعابير التالية: "ظنّ الجاهلية"[١] "حكم الجاهلية"[٢] "تبرّج الجاهلية"[٣] و"حمية الجاهلية"[٤] وفيها دلالة على الذم والعتاب كما أنّ استعمال بعض مشتقات هذه الكلمة في القرآن أيضاً له نفس الإيحاء، منها: "تجهلون"[٥] و"جاهلون"[٦] "جاهلين".[٧]

أشار القرآن بهذه الآيات إلى تاريخ الإنسان قبل الإسلام وهاجم بها الرذائل الأخلاقية السائدة في تلك الفترات. وأطلقت لفظة "الجاهلية" في مرحلة ثانية على تلك المرحلة الزمنية التي سبقت الإسلام لما اتسمت بالأخلاق والسلوك السلبية.

الآية 154 من سورة آل عمران

الآية "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية[٨] تستنكر الظن الخاطئ الذي يتّبعه البعض وتعتبره ظن الجاهلية. ويعتبر الطبري أنّ المقصود من الآية هو المنافقون الذين ارتابوا في أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

كما عدّ الطبري المقصود من "ظن الجاهلية" هو ظن المنافقين بأن الله لا يوالي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم أورد الطبري معنيين لهذاالتعبير: الأول أن اعتقاد المنافقين بالله كاعتقاد الجاهليين والثاني أنّ ظنهم كظن أهل الجاهلية (أي الكفار والمنكرين للوعد الإلهي)[٩] ويرى العلامة الطباطبايي أنّ المراد من "ظنّ الجاهلية" هو ظنّ من يرى أنّ الإسلام لا بدّ أن ينتصر في الحروب وعلى الله أن ينصر دينه وأتباع الإسلام من دون شروط وهذا ظن الجاهلية.

لأن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أنّ الله تعالى خالق كل شيء وأنّ لكل صنف ربا يدبّر أمرها لا يغلب على إرادته وكانوا يعبدون هذه الأرباب.[١٠] ولذلك كانوا يعتقدون أنّ النبي (ص) هو أول من يتحملّه من ربه ويحمل أثقاله لذلك لا يقهر في ظاهر دعوته وذلك ظن بالله غير الحق، ظن الجاهلية.

الآية 50 من سورة المائدة

المراد من "حكم الجاهلية" في آية "أفحكم الجاهلية يبغون" هو كيفية حكم الجاهليين. وفي أسباب نزول الآية رأيان:

أحدهما: أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه(النبي صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: القتلى بواء ، فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت [الآية].

والثاني أن يكون تعييراً لليهود بأنّهم أهل كتاب وعلم ، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى .[١١] إذن تشمل الآية كل من يبتغي غير حكم الله.

ويعتقد العلامة الطباطبائي نظراً للحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام[١٢] والتقابل بين الإستفهام التوبيخي والإنكاري أنّ الحكم لا يخرج عن حالتين: حكم الله وحكم الجاهلية.[١٣]

الآية 33 من سورة الأحزاب

تنهى الآية "ولا تبرّجن تبرج الجاهليّة الأولى"[١٤] أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنّساء المؤمنات عن التبرج. والمراد من تبرج الجاهلية في هذه الآية هو التبختر في المشي وإبداء الزينة للرجال كما كانت نساء الجاهلية تقترفه.[١٥]

وقد اختلف العلماء في تفسير عبارة "الجاهلية الأولى" فمنهم من يعتبرونها تدل على فترة تاريخية معينة ويذكرون لها مصاديق كالفترة الزمنية الفاصلة بين نبي الله آدم والنبي نوح على نبينا وآله وعليهما السلام أو بين النبي نوح والنبي إدريس أو النبي عيسى والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم[١٦]

ويرى الطبري (نفس المصدر) أن المراد من "الجاهلية الأولى" هو فترة ما قبل الإسلام من زمن النبي آدم إلى عيسى عليهماالسلام. وإطلاق عنوان "الجاهلية الأولى" كان بسبب إحياء الأخلاق الجاهلية والرسوبات الجاهلية بعد ظهور الإسلام وذلك ما تشير إليه الأحاديث والأخبار[١٧] ورجّح الزمخشري[١٨] أنّ الجاهلية الأولى (قبل الإسلام) تكون مقابل الجاهلية الأخرى (الفساد والانحطاط بعد ظهور الإسلام) كما أنّ هناك من رفض هذا الرأي واعتبر أن الجاهلية الأولى لم تكن مقابل الجاهلية الأخرى بل المقصود من الجاهلية الأولى هو الجاهلية القديمة[١٩]

الآية 26 من سورة الفتح

إن عبارة "حمية الجاهلية" في الآية "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية"[٢٠] تعنى تعصب العرب الجاهليين لآلهتهم حيث يؤدي إلى الرغبة عن عبادة غيره عزوجل بسبب الكبر الذي ينهى الإنسان عن التسليم والانقياد إلى الله.

وقيل إنّ المراد من "حمية الجاهلية" هو الإمتناع عن الإذعان لنبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم[٢١] ويشير الفخر الرازي[٢٢] إلا أن الحمية صفة مذمومة وبعد إضافتها إلى الجاهلية زادت قبحا.

أسلوب وتقاليد الجاهلية

يستنكر القرآن حياة العرب في الجاهلية ومن معالم حياتهم المذكورة في القرآن هي: الشرك، وعدم البر بالوالدين، وقتل الأولاد خشية الفقر[٢٣] الزنا[٢٤] إرغام الإماء إلى ارتكاب الزنا[٢٥] وأد البنات[٢٦] شرب الخمر[٢٧] أكل الربا[٢٨] احتقار النساء[٢٩] القمار(المسيرة، الأزلام)[٣٠] وتقديس بعض الحيوانات كالبحيرة وغيرها.[٣١]

في الأحاديث

وردت في الأحاديث بعض صفات الجاهلية ومظاهرها ومصاديقها, وإنّ كيفية استعمال هذه الكلمة في الأحاديث تدل على أنّ هذا المفهوم كان شائعاً لبيان أخلاق وأسلوب وآداب والطقوس الدينية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ويستمدّ من خطب الإمام علي عليه السلام[٣٢] بأنّ مأكل الجاهليين ومشربهم كان سيئاً وعلى مستوى المعتقدات الدينية والعلاقات الأسرية والأجتماعية والحياة الفردية كانوا في انحطاط وفساد. وقد ورد بعض تلك الأوصاف في خطاب جعفر بن أبي طالب (الذي تولى المسلمين المهاجرين إلى الحبشة) لدى حاكم الحبشة.[٣٣] كما يستفاد من خطبة السيدة الزهراء سلام الله عليها في المسجد النبوي نفس المعنى.[٣٤]

وتدل روايات أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا عارفين بثقافة الجاهلية وكانوا يتناشدون أشعارها ويتذاكرون من أمرها أشياء.[٣٥] وكان النبي ساكتا وربما يتبسم.[٣٦]

وورد في مصدر آخر أنّ النبي (ص) قال في أيام وأشعار الجاهلية إن "ذاك علم لا يضر من جهله ، ولا ينفع من علمه"[٣٧] ومن الأمور الهامة التي كان الصحابة يشاورون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها هي ما قاموا بها في الجاهلية من أفعال وأعمال وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد: "إذا أحسنت في الاسلام لم تؤاخذ بما عملت في الجاهلية وإذا أسأت في الاسلام أخذت بالأول والآخر".[٣٨]

كما أنهم كانوا يستفسرون النبي صلى اله عليه وآله وسلم عن أحلاف الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً يؤكد على الإلتزام بها.[٣٩]

تصحيح الفكر الجاهلي بواسطة أهل البيت(ع)

يستفاد من الأحاديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام كانوا يغتنمون الفرص لمواجهة الفكر الجاهلي وإصلاحه أحيانا. كما أنّهم قاموا بتخطئة هذا التفكير وأنكروا مظاهره ومصاديقه.

وورد في الحديث النبوي أنّ "الله قد وضع بالاسلام من كان في الجاهلية شريفاً وشرّف بالاسلام من كان في الجاهلية وضيعاً وأعزّ بالاسلام من كان في الجاهلية ذليلاً وأذهب بالاسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها"[٤٠] كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن: " من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع [أعراب الجاهلية"[٤١] كما أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لام بعض أصحابه لارتكابهم أفعال الجاهلية.[٤٢]

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجدّاً في محاربة الجاهلية حتى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدّل اليومين الذين كانت عرب الجاهلية يلعبون فيهما بعيد الفطر وعيد الأضحى.[٤٣] كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم سمّى من كان اسمه في الجاهلية "عزيز" وهذا الاسم يوحي الغرور والكبرياء بـ"عبد الرحمن".[٤٤]

وقد نهى الإمام علي عليه السلام الآخرين من اتباع النهج الجاهلي والعصبية الجاهلية واعتبر الشيطان مُظهر الجاهلية.[٤٥]

وعدت بعض الروايات أعمال وسلوك عدد من المسلمين من مصاديق الثقافية الجاهلية. وجاء في حديث عن الإمام السجاد عليه السلام: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".[٤٦]

كما ورد في الحديث أن "من شرب مسكراً انحبست صلاته أربعين يوماً وإن مات في الأربعين مات ميتة جاهلية".[٤٧] واعتبر الموت من دون وصية[٤٨] ومسح دم العقيقة على رأس المولود[٤٩] وأكل الطعام مع المصابين[٥٠] من مصاديق الجاهلية.

علاقة معرفة أهل البيت بمفهوم الجاهلية

من الأمور الواردة في الأحاديث المرتبطة بهذا الموضوع هي علاقة الإمامة بمفهوم الجاهلية. وحسب هذه الروايات عدم المعرفة بالإمام تساوي الجاهلية ومن مات على هذا الحال مات ميتة جاهلية لأنّه ما اتّبع إمام عصره وما التزم بالحق[٥١] وورد أمثال هذه المضامين في الأدعية منها الدعاء في غيبة القائم الذي يسأل الداعي أن لا يميته ميتة الجاهلية.[٥٢]

واعتبر في أحاديث الشيعة أنّ الحقد على الإمام علي عليه السلام يؤدي إلى موت الجاهلية[٥٣] كما عُدّت سيرة الإمام المهدي (عج)في محاربة الجاهلية في وقت الظهور كسيرة النبي صلى الله عليه وآله في صدر الإسلام[٥٤]

من منظار المستشرقين

اتّضح مفهوم الجاهلية أكثر من ذي قبل في القرون الأخيرة بعد اتّساع بحوث المستشرقين حول الإسلام سيما في حقل معرفة العرب والسيرة النبوية والقرآن.

رؤية جولد تسيهر

كانت حصيلة دراسات المستشرق المَجَري "إجناتس جولد تسيهر"[٥٥] في الشعر والثقافة الجاهلية أنّ الجهل في هذا المضمار هو مقابل العقل لا العلم. إذن المقصود من الجاهلية وفقاً لهذا الرأي لم يكن عصر الجهل بل هو عصر الطغيان والتوحش الذي يتضمن العنف والاستبداد والتفاخر واللغو وأمثالها.[٥٦] ويجدر الإشارة إلى أن تقابل الجهل والعلم له جذور في تراث الشعر العربي[٥٧] والأحاديث والروايات الإسلامية.[٥٨] وقد ورد أيضاً المعنى الثانوي للجهل الذي يقابله العلم.[٥٩] وإن ارتاب البعض في نظرية جولد تسيهر[٦٠] ولم يلقى رأيه القبول من قبل الكثير من المحققين والمترجمين إلا أن رؤيته هذه باتت قابلة للبحث والدراسة من قبل العلماء والباحثين.

رؤية ايزوتسو

قام الفيلسوف الياباني توشيهيكو إيزوتسو في كتاب المفاهيم الأخلاقية والدينية في القرآن الكريم [٦١] ببحث على أساس الآيات القرآنية والدلائل الحديثية والتاريخية بتكميل نظرية جولد تسيهر وتوصل إلى نتيجة وهي أن استعمال القرآن لكلمة الجهل والجاهلية كانت تدل على خصومة أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعقيدة الإسلامية والتوحيد واستخدام العنف والقوة إزاء تلك المعتقدات التي كانت متشددة وفق معاييرهم الأخلاقية.

وفضلاً عن ذلك خصّص إيزوتسو فصلاً من كتابه الله والإنسان في القرآن لتبيين مفهوم الجاهلية في إطار العلاقة بين مفاهيم الرب والعبد. وأشار إيزوتسو في كتابه أن عرب الجاهلية ما كان يعتبر الله هو الرب المطلق بل كان يعتقد برب الأرباب.

والتغییر فی مفهوم الرّب وتبني فكرة الربوبية المطلقة من قبل الإسلام أدّى إلى تغيير جذري في العلاقة بين الله والإنسان. ذلك أن الإنسان حسب هذه الرؤية يصبح عبداً تامّاً لله من دون قيود وأن العبادة والطاعة والقنوت والخشوع والتضرّع وغيرها تصبّ في هذا الإطار.

ويرى إيزوتسو أن أهمّ أشكال العبوديّة تتجلّى في الإسلام وهو التّسليم التام أمام الله. والحياة من هذا المنطلق على نمطين متباينين تبايناً تاماً وهما: الجاهلي والإسلامي.

الإسلام هو الإعراض عن الكبر والغرور والإتجاه إلى الله والجهل يعني الإنخداع بالقدرة البشرية والإستقلال عن الله.

واعتبر إيزوتسو مستدلّاً بالآيات القرآنية أن الكبر والغرور هو أساس الخصال الرذيلة في العصر الجاهلي. والإسلام بصدد توجيه ضربات ضربات قاسية لهذه النفسية التي تذكرها آية 26 من سورة الفتح بإيجاز. وبالتالي أدى ظهور القيم الإسلامية المرتكزة على التوحيد والإعتقاد بالربوبية المطلقة لله ونفي الشرك إلى نزاع لم يسبق له نظير بين القيم الإسلامية ومنهج الجاهلية.

رؤية بلاشير

قام المستشرق الفرنسي، "ريجي بلاشير" في تاريخ الأدب العربي وفقا للمعطيات المأثورة بدراسة نفسية العرب البدوي والخصائص الإجتماعية والفردية له وذكر منها: التطبّع على القسوة منذ الطفولة إلى جانب الفقر والحرمان الذي يزداد الإنسان عصبية وغرورا وغضبا وعنفا؛ والشعور بالشرف والغيرة وهما من مظاهر الصيت الحسن؛ والطُموح؛ والثأر وكان ذا صلة بالصعيد الفردي والإجتماعي والديني وكان الرجز مظهرا فنيا من مظاهر الصفات المذكورة وكان ينشد في الحروب؛ والقمار؛ وشرب الخمر وكانا يلبيان حاجة العرب البدوي إلى الشهرة والتظاهر بالغنى وعدم المبالاة ببذل المال.[٦٢]

بلاشیر بعد عدّ هذه الصفات وتأييد نظرية جولد تسيهر يقول إن تلك المظاهر النفسية تكوّن مجموعة يعبّر عنه الإسلام بـ"الجاهلية".[٦٣] كما قام وليم واط بدراسة الأوضاع الفكرية والإعتقادية لعرب الجاهلية وأطلق على مجموعة تلك الخصال عنوان "الحركة الإنسانية القبلية". وبحث "فرانز روزنتال" [٦٤] فضلا عن الجانب اللغوي لكلمة الجاهلية، الجانب التطبيقي بين مصادر اليهود والآيات القرآنية في هذا المضمار.

الجاهلية بعد الإسلام

نظراً للآيات القرآنية والأحاديث والآراء والبحوث، لم تقتصر الجاهلية في ما قبل الإسلام، بل ظهرت مصاديق كثيرة منها بعد الإسلام حتى يمكن اعتبار القرون الأولى من الإسلام عصر الصراع بين القيم الإسلامية والأساليب الجاهلية. [٦٥] فأتى ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" بمصاديق الجاهلية في عصره كتشابه المسلمين بالكفار في الأعياد.[٦٦] ويعتبر الجاهلية في العهد الإسلامي جاهلية مقيدة إزاء الجاهلية المطلقة.[٦٧]

رؤية محمد بن عبدالوهاب

طرح محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الفرقة الوهابية،المتوفى سنة( 1206) وأتباعه، المتأثرين بآراء ابن تيمية، موضوع الجاهلية في العهد الحديث. يرى ابن عبد الوهاب أن الناس كلهم في أنحاء المعمورة أو في الجزيرة العربية على أقل التقادير يعيشون الجهل لأنهم لم يلتزموا في أعمالهم ومعتقداتهم بالوحي.[٦٨] كما أشار بعض الأصلاحيين في القرن العشرين كمحمد عبدة (المتوفى 1905م) ومحمد رشيد رضا (المتوفى 1935م) في تفسير المنار[٦٩] إلى هذا الموضوع. ويعتقد هؤلاء أنّ بعض المسلمين في العصر الحاضر أشد جهلاً ممن نزل القرآن عليهم من الأعراب.

رؤية المودودي

طرحت فكرة الجاهلية الحديثة في العقود الأخيرة كمفهوم مستقل بواسطة بعض العلماء والكتّاب المعنيين بالدين بسبب اصطدام العالم الإسلامي بالعالم الحديث.

وعبّر السيد ابوالأعلى المودودي (المتوفى 1979م) القائد الديني والسياسي الباكستاني لأول مرة عن التجدّد بـ "الجاهلية الحديثة" وهي تشمل الأنظمة الحكومية والنظريات السياسية والإجتماعية المناوأة للأخلاق والثقافة الإسلاميّة.[٧٠] وكان يرى المودودي الماركسيّة والعالم الغربي مصداقاً من مصاديق هذه الجاهلية[٧١] وشاعت آراء المودودي في العالم العربي بعد ترجمة كتبه إلى العربية في 1950م. وألّف تلميذه "ابو الحسن علي الحسني الندوي" (المتوفى 1999م) في سنة 1950م كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" وشرح فيه نظرية "الجاهلية المعاصرة" للمودودي[٧٢] تلقى هذا الكتاب إقبال العالم الإسلامي فتم إعادة طبع هذاالكتاب عدّة مرّات وترجم إلى لغات شتّى.[٧٣] ويشبه الندوي العالم بالقطار السريع الذي تجره الجاهلية الغربية نحو أهدافها بكل قوة، والعالم الإسلامي مرغم على ركوب هذا القطار شاء أم أبى.[٧٤]

رؤية سيد قطب

وسّع سيد قطب (المتوفى 1966م) العالم الديني والناشط السياسي في مصر مفهوم "الجاهلية المعاصرة" أكثر من ذي قبل. كان السيد متأثراً بآراء المودودي والندوي[٧٥] وكتب بعد سفره إلى أمريكا حول هذا الموضوع في كتابه "في ظلال القرآن" ونشر سيد قطب آراءه المبسوطة حول الجاهلية المعاصرة في كتابه "معالم في الطريق".

ويتحدث سيد قطب في هذا الكتاب حول الصراع بين الجاهلية والإسلام وانحراف المجتمعات بالجاهلية المعاصرة ودعى المسلمين إلى الابتعاد عن الفكر الجاهلي والاتجاه نحو القيم وبناء مجمتع إسلامي.[٧٦] ويزعم سيد قطب أنّ المعتقدات والثقافات والقوانين البشرية العصريّة كلها جاهلية (منها ما نراها إسلامية) وهي الجاهلية التي حاربها الإسلام أو أشد منها.[٧٧]

الجاهلية من منظار سيد قطب هي عبودية الإنسان للإنسان والإسلام هو العبودية لله وهما طريقان لا يجتمعان ولإقامة المجتمع الإسلامي علينا أن ننتقل من الجاهلية إلى الإسلام.[٧٨]

رؤية محمد قطب

دوّن محمد قطب (المتوفى 1965م) شقيق سيد قطب في موضوع "جاهلية القرن العشرين". يرى محمد قطب أن الجاهلية تكون على المستوى النفسي وهو الرفض التام للهداية الإلهية وعلى مستوى العمل التمرد على الحكم الإلهي.

والجاهلية بمعنى الإنقياد للهوى والشهوات لا تقتصر على فترة دون أخرى[٧٩] وجاهلية العرب قبل الإسلام كانت بسيطة لكن الجاهلية الحديثة هي قائمة على علم وبحث وتنظير وعرفت لدى الناس بالحضارة والتطور.

ويعتبر محمد قطب أن جاهلية القرن العشرين هي عصارة الجاهلية في كل العصور.[٨٠] ويهاجم محمد قطب في معظم كتابه مظاهر الجاهلية على الصعيد السياسي والإقتصادي والإجتماعي والأخلاقي والفني. ويرى الخلاص من هذه الجاهلية في العصر الحديث هو التحرر من أسر حكامها من تياري الليبرالية والشيوعية والعودة إلى الإسلام.

الهوامش

  1. آل عمران: 154.
  2. المائدة: 50
  3. الأحزاب: 33
  4. الفتح: 26
  5. النمل: 55
  6. الفرقان، 63
  7. البقرة:67؛ الأعراف:199
  8. آل عمران، 154
  9. النحاس، معاني القرآن الكريم، ج 1، ص 499.
  10. الطباطبائي، الميزان، ج 4، ص 48.
  11. الزمخشري، الكشاف، ج 1، ص 619.
  12. الكليني، الكافي، ج 7، ص 407؛ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 6، ص 218.
  13. الطباطبائي، الميزان، ج 5، ص 365.
  14. الأحزاب: 33
  15. راجع طبري، طوسي وزمخشري، طبرسي ذيل الآية
  16. راجع الطبري؛ والطوسي؛ والتبيان؛ الطبرسي، ذيل الآية
  17. راجع الطبري؛ نفس المصدر
  18. ذيل الآية
  19. الفخر الرازي، ذيل الآية
  20. الفتح، 26
  21. راجع الطوسي؛ والطبرسي، ذيل الآية
  22. ذيل الآية
  23. الأنعام: 151
  24. الإسراء: 32
  25. النور: 33
  26. التكوير: 8
  27. البقرة: 219؛ المائدة: 90ـ91
  28. البقرة: 275 ـ 276
  29. النحل: 58ـ59
  30. المائدة، 90
  31. المائدة: 103
  32. نهج البلاغة، الخطبة رقم 2 و26 و95.
  33. ابن حنبل، مسند ابن حنبل، ج 5، ص 291.
  34. ابن ابي طاهر، بلاغات النساء، ص 13.
  35. ابن حنبل، مسند ابن حنبل، ج 5، ص 105.
  36. ابن حنبل، مسند ابن حنبل، ج 5، ص 105.
  37. الكليني، الكافي، ج 1، ص 32.
  38. ابن حنبل، مسند ابن حنبل، ج 1، ص 379 و409؛ مسلم بن حجاج، صحيح مسلم، ج 1، ص 77-78؛ البرقي، المحاسن، ج 1، ص 250.
  39. ابن حنبل، مسند ابن حنبل، ج 2، ص 207؛ البخاري، صحيح البخاري، ج 2، ص 260 و125.
  40. راجع الكليني، ج 5، ص 340 والكيني، ج 8، ص 246؛ ابن حنبل، ج 2، ص 361.
  41. راجع: الكليني، ج 2، ص 308؛ ابن بابوية، 1417، ص 704.
  42. راجع: البخاري، 1401، ج 1، ص 13؛ مسلم بن الحجاج، ج 5، ص 93؛ الطبري، ذيل سورة الأحزاب، 33.
  43. راجع ابن حنبل، ج 3، ص 103،235، 250.
  44. راجع ابن حنبل، ج 4، ص 178، و ج 5، ص 84.
  45. راجع: نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 288-289.
  46. راجع: الكليني، ج 2، ص 308-309.
  47. راجع: الكليني، ج 6، ص 400-401؛ الطوسي، التهذيب، ج 9، ص 106-107؛ الهيثمي، ج 5، ص 72.
  48. فتال النيشابوري، ص 482.
  49. راجع: ابن بابوية، 1404، ج 1، ص 29.
  50. راجع: ابن بابوية، 1404، ج 1، ص 182.
  51. البرقي، ج 1، ص 154؛ ابن بابوية، 1404، ج 1، ص 63؛ الكليني، ج 1، ص 376؛ المازندراني، ج 6، ص 354.
  52. راجع: ابن بابوية، 1363 ش، ج 2، ص 512.
  53. راجع ابن بابوية، 1386، ج 1، ص 144،157.
  54. راجع: الطوسي، التهذيب، ج 6، ص 154.
  55. ج 1، ص 201-208.
  56. راجع: بلا شر، ج 1، ص 30.
  57. الأصمعي، ص97؛ الآلوسي، ج 1، ص 103؛ وراجع الحوفي، ص 348-350.
  58. راجع: ابن هشام، ج 3، ص 93-94؛ الكليني، ج 1، ص 112.
  59. إيزوتسو، 1966، ص 28.
  60. د.اسلام، چاپ دوم، ذیل hiliyya" ¦"Dja)
  61. إيزوتسو، المفاهيم الأخلاقية والدينية في القرآن الكريم، ص 28-35
  62. راجع بلاشير، ج 1، ص23-28.
  63. ج 1، ص30.
  64. ص 32-35.
  65. راجع الأمین، ص 78-83.
  66. ابن تيمية، ص 1.
  67. راجع:ابن تيمية، ص 69-79.
  68. دائرة المعارف القرآني، ذيل ignorance" of "Age
  69. رشيد رضا، ج 6، ص 422-423.
  70. المودودي، ذيل آية 50 من سورة المائدة، الأحزاب، الأية 33
  71. راجع: آراء المودودي باختصار في دائرة المعارف العالم الإسلامي أكسفورد، ذيل ah" ¦"Jahil، دائرة المعارف القرآني، نفسه
  72. السيوان، ص 23.
  73. راجع: الندوي، ص3ـ4؛ السيوان، نفسه
  74. الندوي، ص 259.
  75. راجع الندوي، مقدمة سيد قطب، ص 12-16؛ سيد قطب، 1384، ص 63، هامش 1؛ وراجع السيوان، نفسه
  76. سيد قطب، ج 2، ص724-730.
  77. سيد قطب، 1384، ص 21.
  78. لقراءة مشروح آراء سيد قطب راجع حداد، ص 85-87؛ السيوان، ص23-27.
  79. محمد قطب، ص 11.
  80. محمد قطب، ص 46.

المصادر والمراجع

  • القرآن الكريم.
  • ابن ابي طاهر، أحمد بن أبي طاهر، بلاغات النساء، قم، مكتبة بصيرتي، د.ت.
  • الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، الأمالي، تحقيق: موسسة البعثة، قم، موسسة بعثة، د.ت.
  • الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية‏،‏ 1385 هـ/ 1966 م‏.
  • الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، 1404 هـ/ 1984 م.
  • الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق: علي أكبر غفاري قم، د.ن، 1363 ش.
  • الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تحقيق: علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1413هـ.
  • ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، د.م، د.ن، د.ت.
  • ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند الإمام احمد بن حنبل، بيروت، دار صادر، د.ت.
  • ابن عبد ربه، أحمد بن محمد، العقد الفريد، تحقيق: علي شيري، بيروت، د.ن، 1988 ــ 1990 م.
  • ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، بيروت، 1411 هـ.
  • الأصمعي، عبد الملك بن قريب، الأصمعيات، تحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون، القاهرة، د.ن، 1955 م.
  • الآلوسي، محمود شكري، بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب، تحقيق: محمد بهجة اثري، بيروت، د.ن، 1314 هـ.
  • البخاري، محمد بن إسماعيل، الأدب المفرد، بيروت، د.ن، 1986 م.
  • البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، اسطانبول، د.ن، 1981 م.
  • البرقي، أحمد بن محمد، كتاب المحاسن، تحقيق: جلال الدين محدث الأرموي، قم، د.ن، 1331 ش.
  • الحوفي، أحمد محمد، الحياة العربية في الشعر الجاهلي، القاهرة، د.ن، 1972 م.
  • الزمخشري، محمود بن عمرو، الكشاف، بيروت، دار الكتاب العربي، 1407 هـ.
  • الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، د.ت.
  • الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار المرتضى، ط 1، 1427 هـ/ 2006 م.
  • الطبري، محمد بن جرير، تفسير الطبري، ضبط وتعليق: محمود شاكر، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د.ت.
  • الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، طبعة احمد حبيب قصير العاملي، بيروت، د.ت.
  • الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، طبعة حسن موسوي الخرسان، طهران، 1390 م.
  • الفتال النيشابوري، محمد بن الحسن، روضة الواعظين، النجف، 1966م، طبعة افست، قم، 1368 ش.
  • الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، بيروت، 2000 م.
  • الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي،
  • المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، مع تعاليق أبو الحسن الشعراني، طبعة علي عاشور، 2000 م.
  • المودودي، أبو الأعلى، تفهيم القرآن، لاهور، 1972م.
  • النحاس، أحمد بن محمد، معاني القرآن الكريم، طبعة محمد علي الصابوني، مكة، 1408ـ1410هـ.
  • الندوي، أبو الحسن علي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، القاهرة، 1988 م.
  • الهيثمي، علي بن أبو بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، بيروت، 1988 م.
  • أمين، أحمد، فجر الإسلام، يبحث عن الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية، القاهرة، 1950 م.
  • إيزوتسو، توشيهيكو، الله والإنسان في القرآن، ترجمة: احمد آرام، شركت سهامي انتشار، طهران، 1381 ش.
  • رشيد رضا، محمد، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، (تقريرات درس شيخ محمد عبده، ج6، مصر، 1375 هـ.
  • قطب، سيد، في ظلال القرآن، بيروت، 1967 م.
  • قطب، سيد، معالم في الطريق، القاهرة، 1964 م.
  • قطب، محمد، جاهلية القرن العشرين، القاهرة، 1964 م.
  • مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، بيروت، دار الفكر، د.ت.
  • نهج البلاغة، طبعة صبحي صالح، بيروت، طبعة إستنساخ(افست)، قم، د.ت.
  • Rإgis Blachةre, Histoire de la littإraturearabe , Paris 1952-1966.
  • EI 2 , s.v. "Dja ¦hiliyya".
  • Encyclopaedia of the Qur ف a ¦n , ed. Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden: Brill, 2001- s.v. "Age of ignorance" (by William E. Shepard).
  • Ignaz Garabe oldziher, Muslim Studies , ed. S.M. Stern, translated from the German by C. R. Barber and S. M. Stern, London 1967-1971.
  • Yvonne Yazbeck Haddad, "Sayyid Qutb: ideologue of Islamic revival", in Voices of resurgent Islam , ed. John L. Esposito, New York 1983.
  • Toshihiko Izutsu, Ethico-religious concepts in the Qur ف a ¦n , Montreal 1966.
  • idem, God and man in the Koran: semantics of the koranic weltanschaung , Tokyo 1964.
  • Theodor Nخldeke, Geschichte des Qura ¦ns , Leipzig 1909, repr. Hildesheim 1981.
  • The Oxford encyclopedia of the modern Islamic world , ed. John L. Esposito, New York 1995, s.v. "Ja ¦hil ¦yah" (by Eleanor Abdella Doumato).
  • Franz Rosenthal, Knowledge triumphant: the concept of knowledge in medieval Islam , Leiden 1970.
  • Emmanuel Sivan, Radical Islam: medieval theology and modern politics , New Haven 1985.
  • William Montgomery Watt, Muhammad at Mecca , Karachi 1979.