الجبر والتفويض
الجبر والتفويض، مسألة كلامية ذات صلة وثيقة بمسائل عدة منها مسألة العدل، والقضاء والقدر، والعقاب والثواب، هذه المسألة تبحث عن كيفية صدور أفعال العباد، هل هي صادرة عن مبدء الإختيار أم هي صادرة عن الإضطرار والقهر؟
وحيث أن هذه المسألة ترتبط بحرية الإنسان وتحديد مصيره احتلت مساحة واسعة من المطارحات الكلامية. فانشعب المسلمون تجاه هذه المسألة إلى أربعة مدارس: فقد نُسب إلى جهم بن صفوان القول بـ (الجبر المحض)، وذهب الأشاعرة إلى القول بـ (الكسب) وقال المعتزلة بـ (التفويض)، وقال أئمة أهل البيت وتبعهم على ذلك الشيعة بـالأمر بين أمرين. وقد استدل علماء الشيعة على ما ذهبوا إليه بـآيات من القرآن الكريم، والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته .
تعريف الجبر والتفويض
الجبر لغة: هو الإكراه، فـ(أَجبره على الحكم أَكرهه)،[١] والتفويض: (فوّض) الأمر إليه جعل له التصرف فيه.[٢] الجبر هو الحمل على الفعل و الاضطرار إليه بالقهر و الغلبة و حقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون لهم قدرة على دفعه و الامتناع من وجوده.[٣] وفي المصطلح الكلامي هو إجبارُ الله عبادَه على ما يفعلون، خيراً كان أو شراً، حسناً كان أو قبيحاً، دون أن يكون للعبد إرادة واختيارُ الرفض والامتناع،[٤] والتفويض: أي إنَّه ليس لله أي صنع في فعل العبد، وإنَّ ذات الإنسان وإن كانت مخلوقة لله ولكن لا يمت فعله إليه بصلة، فالإنسان مستقلٌ في فعله وفي إيجاده وتأثيره حفظاً لعدل الله.[٥]
تأريخ المسألة
لا يمكن تحديد زمن تكوّن هذه المسألة لأنها من المسائل الفكريّة التي يتطلعُ لها كل إنسان لكي يحلها سواء قَدِرَ عليها أم لا، وقد كانت مطروحة في الفلسفة الإغريقيّة، ثم طُرحت في الأوساط الإسلاميّة وبحث عنها المتكلمون والفلاسفة الإسلاميون، كما وقع البحث عنها في المجتمعات الغربيّة الحديثة.[٦]
الآراء في المسألة
إنَّ الآراء المطروحة في مسألة الجبر والتفويض في الكلام الإسلامي أربعة، وهي:
الجبر المحض
وهو منسوب إلى جهم بن صفوان (ت 128 ه) قال الأشعري: تفرّدَ جهم بإمور منها: انَّه لا فعل لإحد فى الحقيقه الا اللّه وحده، وانَّهُ هو الفاعل، وإنَّ الناس انَّما تُنسبُ إليهم أفعالهم على المجاز، كما يُقال: تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس.[٧]
- دليل بطلان الجبر المحض
قال العلماء: لا ريبَ في بطلان هذا المذهب بالبداهة، إذ لو كانَ كذلك لبطلَ التكليف والوعد، والوعيد، والثواب، والعقاب، ولصار بعث الأنبياء وإنزال الكتب والشرائع السماويّة لغوا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.[٨]
الكسب
اشتهرت نسبة نظريّة الكسب للأشاعرة وعُدّت من مميزات منهجهم وقد قامَ الشيخ الأشعري وتلامذته وذكروا الأدلة العقليّة والنقليّة على هذه النظريّة، وهي أنَّ أفعال العباد تنقسم بالمشاركة بين الله وعباده، فلا يستقل أي من الطرفين بها وحده، ولما كان الله لا يحتاج إلى معين في أفعاله، ومن ثم فإن الفعل ينسب إلى فاعلين هما الله والعبد.[٩]
- دليل بطلان الكسب
لقد أدركَ بعض رجال الأشاعرة بطلان هذه النظريّة وعدم كونها طريقاً صحيحاً لحل معضلة الجبر، فأبطلوها، فقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني: من زعم أنّه لا عمل للعبد فقد عاند، فإنّ القُدرة الحادثة، إذا لم يكن لها أثر، فوجودها وعدمها سواء، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل فقد أشرك، فلابدّ أنّه مضطرّ على الإختيار،[١٠] وكذلك إمام الحرمين،[١١] والشيخ محمد عبده.[١٢]
التفويض
المنقول عن المعتزلة هو أنّ أفعال العباد مفوَّضة إليهم وهم الفاعلون لها بما منحهم اللّه من القدرة، وليس للّه سبحانه شأن في أفعال عباده، قال القاضي عبد الجبار: ذكر شيخنا أبو علي (رحمه الله): اتّفق أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم، حادثة من جهتهم، وأن اللّه أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم.[١٣] وقال أيضاً: فصلٌ في خلق الأفعال، والغرض به، الكلام في أنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم المُحدِثون لها.[١٤]
- دافع المعتزلة للقول بالتفويض
إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على العدل الإلهي، فلمّا كان العدل عندهم هو الأصل والأساس في سائر المباحث، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه، فوقعوا في التفويض؛ لاعتقادهم بأنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة للّه ينافي عدله تعالى وحدّدوا بذلك خالقيته تعالى وسلطانه.[١٥]
- دليل بطلان التفويض
استدل العلماء على بطلان التفويض بأدلة كثيرة من القرآن والسنة: كقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ﴾،[١٦] إلى غير ذلك من الآيات[١٧] الّتي تُقيّد فعل الإنسان بإذنه، والمراد منه الإذن التكويني ومشيئته المطلقة.[١٨]
وأمّا السُنّة، فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض فيما أُثِرَ من أئمة أهل البيت وكان المعتزلة مدافعين عن تلك النظريّة في عصرهم، مروّجين لها، ومن الروايات في المقام: ما رواه الصدوق في «الأمالي» عن هشام، قال: قال أبو عبد اللّه: «إنّا لا نقول جبراً ولا تفويضاً»،[١٩] وروايات أخرى كثيرة.[٢٠]
الأمر بين أمرين
لقد ذهب المجبّرة إلى الجبر لأجل التحفّظ على التوحيد الأفعالي وحصر الخالقية في اللّه، كما أنّ المفوّضة قالوا بالتفويض لغاية التحفّظ على عدله، وكلا الفريقين غفلا عن نظرية ثالثة فيها الحفاظ على كلٍّ من أصلي التوحيد والعدل، مع نزاهتها عن مضاعفات القولين، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الّذي قال به أئمّة أهل البيت وهو مختار الحكماء الإسلاميين والإمامية من المتكلّمين.[٢١]
ومعنى الأمر بين أمرين: هو وجود النسبتين والإسنادين في فعل العبد، نسبة إلى اللّه، ونسبة إلى العبد، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى، كما ورد عن النبي (ص) أنه قال: قال الله عز وجل: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد»، فإنه قد جعل مشيئة العبد وأرادته، مشيئة الله سبحانه وإرادته، ولا يعرفهما مفصولتين عن الله سبحانه، بل الإرادة في نفس الإنتساب إلى العبد منتسبة إلى الله سبحانه.[٢٢]
- أدلة الأمر بين أمرين
استدل على الأمر بين أمرين من القرآن بالعديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾[٢٣]وآيات أخرى كثيرة،[٢٤] ومن السنة بالعديد من الروايات فقد روي عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّه قال: «لا جبر ولاتفويض ولكن أمر بين أمرين». قال، فقلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: «مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته، فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته، أنت الّذي أمرته بالمعصية»،[٢٥] وروايات أخرى كثيرة.[٢٦] [٢٧]
الهوامش
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 419.
- ↑ إبراهيم، المعجم الوسيط، ج 2، ص 325.
- ↑ المفيد، تصحيح الإعتقادات الإمامية
- ↑ العسكري، دراسة حول الجبر والتفويض والقضاء والقدر، ص 5.
- ↑ السبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 257.
- ↑ الكلبايكاني، محاضرات في الإلهيات، ص 191.
- ↑ الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 312.
- ↑ الكلبايكاني، محاضرات في الإلهيات، ص 196.
- ↑ حافظ، الجبر والاختيار في الفكر الإسلامي، ص 54.
- ↑ الشعراني، اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر، ص 139-141.
- ↑ الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 98.
- ↑ عبده، رسالة التوحيد، ص 59- 62.
- ↑ القاضي عبد الجبار، المغني في أصول الدين، ج 6، ص 41.
- ↑ القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 323.
- ↑ الكلبايكاني، محاضرات في الإلهيات، ص 203-204.
- ↑ فاطر : 15.
- ↑ البقرة: 102 و 249؛ يونس: 100؛
- ↑ السبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 331 - 332.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 4.
- ↑ المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 17؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 54.
- ↑ الكلبايكاني، محاضرات في الإلهيات، ص 205.
- ↑ السبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 349.
- ↑ الأنفال: 17.
- ↑ التوبة: 14؛ البقرة: 74؛ المائدة: 13.
- ↑ الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 160.
- ↑ الصدوق، التوحيد، ص 360 و 361؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 75.
- ↑ السبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 352 - 360.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية.
- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت - لبنان، الناشر : دار صادر، ط 1، د.ت.
- الأشعري، علي بن إسماعيل، مقالات الإسلاميين، ط 3، 1400 هـ.
- السبحاني، جعفر، الإلهيات على هدى الكتاب والسُنّة والعقل، قم - إيران، مؤسسة الإمام الصادق، ط 7، 1388 هـ - 1430 م.
- الشعراني، عبد الوهاب، اليواقيت والجواهر، بيروت - لبنان، دار احياء التراث العربي، د.ت.
- الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، بيروت - لبنان، دار المعرفة، 1402 هـ.
- الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، قم - إيران، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، ط 1، 1398 هـ.
- العسكري، مرتضى، دراسة حول الجبر والتفويض والقضاء والقدر، د.م، د.ن، د.ت.
- القاضي، عبد الجبار، المغني في أصول الدين، مصر، الناشر: الشركة العربية، ط 1، 1380 هـ.
- القاضي، عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، القاهرة - مصر، مكتبة وهبه، ط 3، 1996 م.
- الكلبايكاني، علي، محاضرات في الإلهيات، بيروت - لبنان، أضواء الحوزة، 1431 هـ - 2010 م.
- الكليني، محمد بن يعقوب،اصول الكافي، طهران - إيران، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط 4، 1407 هـ.
- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت – لبنان، دار إحياء التراث العربي، ط 2، د.ت.
- حافظ، أشرف، الجبر والاختيار في الفكر الإسلامي (مشكلة وحل)، طرابلس، منشورات دار النخلة، 1999 م.
- عبده، محمد، رسالة التوحيد، بيروت - لبنان، دار ابن حزم، 1421 هـ.