انتقل إلى المحتوى

وجوب شكر المنعم

من ويكي شيعة

وجوب شكر المُنعِم بمعنى ضرورة أن يشكر الإنسان من أنعم عليه. تُعد مسألة "وجوب شكر المنعم" قاعدة عقلية أو حكمًا شرعيًا يفرضه العقل والقرآن والأحاديث. وقد اختلف علماء المسلمين حول ما إذا كانت هذه القاعدة تُستمدّ من العقل، أو أنّ الشريعة وحدها التي تدلّ عليها، حيث يرى العدلية (المعتزلة والإمامية) أنّ هذه القاعدة عقلية، على الرغم من أنها مذكورة في القرآن والروايات. ولذلك، فإنّ الأحكام الشرعية في هذا الصدد تكون إرشادية. ويقولون لإثبات مدّعاهم إنّ هذا أمر بديهي يتطلب شكر كل من أنعم على الإنسان، ويستندون أيضا إلى سيرة العقلاء في هذا الشأن. في مقابل الأشاعرة - وهي فرقة كلامية من أهل السنة - الذين يستندون إلى آيات القرآن وأدلة أخرى، ويعتقدون أنه قبل حكم الشرع وبعثة الأنبياء لا يمكن الحكم بضرورة شكر المنعم.

وقد استخدم علماء الشيعة هذه القاعدة في فروع العلوم الإسلامية المختلفة، بما في ذلك علوم الكلام وأصول الفقه والفقه، ومن أمثلة ذلك وجوب التحقيق في المسائل الاعتقادية وإثبات ضرورة الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط.

التعريف بالقاعدة وأهميتها

"وجوب شكر المنعِم" تعني الإلزام العقلي أو الشرعي للإنسان بشكر من أنعم عليه.[١] وتناقَش هذه القاعدة عادة في علم الكلام؛ إلا أن الفقهاء استفادوا منها أيضًا في استنباط بعض الأحكام.[٢]

وقد عدّ المفسرون بعض الآيات كأدلة على هذه القاعدة. فعلى سبيل المثال، تعرّضوا لهذه المسألة في ذيل الآيات 11 إلى 15 من سورة الزخرف،[٣] والآية 107 من سورة الأعراف،[٤] والآية 109 من سورة الأنعام،[٥] والآية 164 من سورة البقرة،[٦] والآية 7 من سورة إبراهيم.[٧] وأكدت الأحاديث أيضاً ضرورة شكر نعم الله. وعلى سبيل المثال؛ جاء في حديث عن الإمام عليعليه السلام: "لو لم يتوعد الله على معصيته؛ لكان يجب ألا يعصى شكرًا لنعمه".[٨]

هل هي قاعدة عقلية أم شرعية؟

إنّ أحد الاختلافات بين مدرستي العدلية والأشاعرة الكلاميتين يدور حول كون "وجوب شكر المنعم" قاعدة عقلية أم شرعية.[٩] يعتقد العدلية، أي المعتزلة[١٠] والإمامية،[١١] أنّ هذه القاعدة عقلية، وأن الأوامر والنواهي الشرعية في هذا الصدد هي إرشادية فقط.[١٢] ويرى الفقيه والأصولي الشيعي الشيخ الأنصاري (وفاة 1281هـ)، أنّ هذه المسألة ترجع إلى الاختلاف في مسألة الحسن والقبح بين العدلية والأشاعرة؛ أي إذا اعتبر شخص ما أنّ العقل هو مصدر تشخيص الحسن والقبح، فإنه سيقبل بالضرورة العقلية لوجوب شكر المنعم؛ أما إذا اعتبر الحسن والقبح شرعيين فقط كما ذهب إليه الأشاعرة، فإنه سيعتبر بالتالي أنّ وجوب الشكر شرعي صرف.[١٣]

أدلة القائلين بعقلية القاعدة

طرح بعض المتكلمين لإثبات عقلية "وجوب شكر المنعم" بديهية هذا الأمر، وقالوا إنّ العقل يوجب بشكل بديهي ردّ فعل تجاه النعمة.[١٤] حيث قال المتكلم الشيعي الكراجكي (وفاة: 449هـ) إنّ لزوم شكر المنعم محل اتفاق العقلاء، ولا يوجد اختلاف بينهم حول ذلك.[١٥] وقد طُرحت استدلالات لإثبات هذه القاعدة، فعلى سبيل المثال؛ استدلّ المتكلم والفقيه الشيعي العلامة الحلي (وفاة: 726هـ) بأنه إذا لم يكن شكر المنعم ضرورياً، فلن يكون اكتساب المعرفة به ضرورياً أيضاً. وإنّ عدم ضرورة المعرفة يعني عدم جدوى بعثة الأنبياء. وبالتالي، فإنّ شكر المنعم من الضروريات.[١٦]

أدلة القائلين بشرعية القاعدة

بخلاف العدلية، يعتقد الأشاعرة أنّ وجوب شكر المنعم يُستنبط من الشرع وليس من العقل. ولتأكيد مدّعاهم أقاموا عدّة استدلالات، ومنها:

  • تُفيد آيات مثل 15 من سورة الإسراء و165 من سورة النساء أن الإنسان لا يكون مستحقًّا للعذاب قبل بعثة الأنبياء والشريعة، وهذا يُظهر أنّ العقل لا يمكنه أن يحكم بوجوب الشكر بشكل مستقل.[١٧] وفي الرد على ذلك، قيل إنّ هذه الآيات تتعلق بالعذاب الدنيوي، وليس الأخروي. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ سبب العذاب يترتّب على الإرادة التي يملكها الفرد تجاه مولاه، وإذا أدرك شخص ضرورة هذا الحكم عقلاً، ولم يلتزم به، فهو مستحق للعذاب.[١٨]
  • إنّ معنى الوجوب يُدرك بأمر الله، وقبل أمر الله لا معنى للوجوب؛ لأن الثواب الذي هو نتيجة الطاعة، والعقاب الذي هو نتيجة العصيان، يأتيان بعد الأمر والنهي الإلهيين.[١٩] وفي الرد؛ قيل إنّ المقصود هنا هو الوجوب والضرورة العقليين، وليس الوجوب الشرعي الذي يترتّب على طاعة الأمر الإلهي.[٢٠]

نماذج من تطبيقات القاعدة

استُعملت قاعدة وجوب شكر المنعم في العلوم الدينية المختلفة بما يتناسب مع موضوع ومسائل تلك العلوم. وتشمل بعض استخداماتها:

ضرورة البحث في الاعتقادات

يستند المتكلمون، مضافًا لقاعدة "وجوب دفع الضرر المحتمل[٢١] إلى "وجوب شكر المنعم" كقانون عقلي لإثبات ضرورة البحث في وجود الله والمسائل العقائدية.[٢٢] ويتم الاستناد إلى هذه القاعدة بالشكل التالي: وجوب شكر المنعم واجب من الناحية العقلية، ولا يمكن تحقيق شكر المنعم دون معرفته، والمعرفة تتحقق من خلال البحث، وبالتالي، فإنّ البحث عن المنعم ضروري.[٢٣]

المبنى الكلامي لأصول الفقه

يعتبر بعض الأصوليين وجوب شكر المنعم من الأسس الكلامية لعلم الأصول، وقيل إنّ العلامة الحلي عدّ هذه القاعدة واحدة من الأسس الكلامية لعلم الأصول وناقشها بشكل مستقل.[٢٤] ومن الأصوليين أيضًا الشيخ البهائي ناقش وطرح هذه القاعدة كواحدة من الأسس الكلامية لأصول الفقه.[٢٥]

دليل ثلاثية (الاجتهاد والاحتياط والتقليد)

يعدّ البحث حول ضرورة الاجتهاد أو الاحتياط أو التقليد أحد المجالات التي استُدّل فيها بهذه القاعدة. فبناءً عليها، قالوا إنّ العقل يوجب شكر المنعم، وإنما يتحقق شكر المنعم إذا علمنا أحكام وقوانين المنعم وعملنا بناءً عليها. فنتيجة لذلك، يجب إمّا أن نتحصّل على قدرة استنباط الأحكام من الدين، وهو ما يُعرف بالاجتهاد، أو أن نعمل بطريقة نتأكد من خلالها أنّ حكم الله قد تم تنفيذه، وهو ما يُعرف بالاحتياط، أو أن نقلد مجتهدًا تتوفر فيه الشروط.[٢٦]

الهوامش

  1. الهاشمي الشاهرودي، محمود، فرهنگ فقه، ج6، ص447؛ سانو، قطب مصطفى، معجم مصطلحات أصول الفقه، ص250.
  2. الهاشمي الشاهرودي، محمود، فرهنگ فقه، ج6، ص447.
  3. حاكم الجشمي، محسن بن محمد، التهذيب في التفسير، ج9، ص6287.
  4. حاكم الجشمي، محسن بن محمد، التهذيب في التفسير، ج9، ص6287.
  5. أبو الفتوح الرازي، الحسين بن علي، روض الجنان، ج7، ص410.
  6. الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير، ج4، ص173.
  7. الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان، ج12، ص23.
  8. نهج البلاغة، حكمة 290.
  9. الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، ج1، ص55–56؛ عثمان، محمود حامد، القاموس المبين، ص192.
  10. القاضي عبد الجبار، عبد الجبار بن أحمد، المغني، ج15، ص27.
  11. آل كاشف الغطاء، محمد حسين بن علي، أصل الشيعة وأصولها، ص76؛ السبحاني التبريزي، جعفر، الإنصاف، ج3، ص37.
  12. الطالقاني، محمد حسن، الشيعة نشأتها وتطورها ومصادر دراستها، ص299.
  13. الشيخ الأنصاري، مرتضى بن محمد أمين، مطارح الأنظار، ص231.
  14. الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد، ج1، ص221؛ الشيخ الطوسي، محمد بن حسن، التبيان، ج7، ص340؛ العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، مبادي الوصول، ص93.
  15. الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد، ج1، ص221.
  16. العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، تهذيب الوصول، ص54.
  17. الفخر الرازي، محمد بن عمر، المحصول في علم أصول الفقه، ج1، ص67.
  18. كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، غاية المأمول، ص199.
  19. الغزالي، محمد بن محمد، المستصفى، ص49.
  20. المظفر، محمد حسن، دلائل الصدق، ج2، ص159.
  21. ابن ميثم، ميثم بن علي، قواعد المرام، ص28–29.
  22. الهاشمي الشاهرودي، محمود، فرهنگ فقه، ج6، ص447.
  23. ابن نوبخت، إبراهيم بن نوبخت، الياقوت، ص27؛ الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، تمهيد الأصول، ص206؛ ابن ميثم، ميثم بن علي، قواعد المرام، ص29؛ الفاضل المقداد، المقداد بن عبد الله، الاعتماد، ص48.
  24. الضميري، محمد رضا، دانشنامه أصوليين شيعة، ص323.
  25. الضميري، محمد رضا، دانشنامه أصوليين شيعة، ص518.
  26. الحكيم، السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص6؛ الموحدي النجفي، محمد باقر، البرهان السديد في الاجتهاد والتقليد، ص34–36؛ السيفي المازندراني، علي أكبر، دليل تحرير الوسيلة، ص3؛ السند، محمد، سند العروة الوثقى (الاجتهاد والتقليد)، ج1، ص23–24.

المصادر والمراجع

  • الطالقاني، محمد حسن، الشيعة نشأتها وتطورها ومصادر دراستها، بيروت، الآمال للمطبوعات، 1420هـ.
  • آل كاشف الغطاء، محمد حسين بن علي، أصل الشيعة وأصولها، بيروت، الأعلمي للمطبوعات، 1413هـ.
  • ابن نوبخت، إبراهيم بن نوبخت، الياقوت في علم الكلام، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (ره)، 1413هـ.
  • أبو الفتوح الرازي، حسين بن علي، روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، مشهد، آستان قدس رضوي، بنياد پژوهش‌ های إسلامي، 1371ش.
  • ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد، عدة الداعي، قم، دار الكتاب الإسلامي، 1407هـ.
  • ابن ميثم، ميثم بن علي، قواعد المرام في علم الكلام، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (ره)، 1406هـ.
  • اشتهاردي، علي پناه، مدارك العروة، طهران، منظمة الأوقاف والشؤون الخيرية، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1417هـ.
  • حاكم الجشمي، محسن بن محمد، التهذيب في التفسير، القاهرة، دار الكتاب المصري، 1440هـ.
  • الحكيم، سيد محسن، مستمسك العروة الوثقى، قم، دار التفسير، 1374ش.
  • سانو، قطب مصطفى، معجم مصطلحات أصول الفقه، دمشق، دار الفكر، 1427هـ.
  • السبحاني التبريزي، جعفر، الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف، قم، مؤسسة الإمام الصادق (ع)، 1381ش.
  • السند، محمد، سند العروة الوثقى (الاجتهاد والتقليد)، بيروت، دار الكوخ، 1394ش.
  • السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة، تصحيح صبحي صالح، قم، هجرت، 1414هـ.
  • السيفي المازندراني، علي أكبر، دليل تحرير الوسيلة (الاجتهاد والتقليد)، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)، 1436هـ.
  • الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، بيروت، دار المعرفة، 1415هـ.
  • الشيخ الأنصاري، مرتضى بن محمد أمين، مطارح الأنظار، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1404هـ.
  • الشيخ البهائي، محمد بن الحسين، زبدة الأصول مع حواشي المصنف عليها، قم، دار البشير، 1383ش.
  • الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (د.ت).
  • الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، تمهيد الأصول في علم الكلام، طهران، انتشارات جامعة طهران، 1362ش.
  • الضميري، محمد رضا، دانشنامه أصوليين شيعة، قم، بوستان كتاب، 1387ش.
  • الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، الأعلمي للمطبوعات، 1352ش.
  • الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار المعرفة، 1408هـ.
  • عثمان، محمود حامد، القاموس المبين في مصطلحات الأصوليين، الرياض، دار الزاحم، 1423هـ.
  • العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، مبادي الوصول إلى علم الأصول، قم، المطبعة العلمية، 1404هـ.
  • الغزالي، محمد بن محمد، المستصفى في علم الأصول، بيروت، دار الكتب العلمية، 1413هـ.
  • الفاضل المقداد، المقداد بن عبد الله، الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد، مشهد، آستانة الرضوية المقدسة، مجمع البحوث الإسلامية، 1412هـ.
  • الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1420هـ.
  • القاضي عبد الجبار، عبد الجبار بن أحمد، المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق قاسم محمود محمد، (د.م)، (د.ن)، (د.ت).
  • كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، غاية المأمول، بدون مكان، بدون ناشر، (د.ت).
  • الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد، قم، دار الذخائر، 1410هـ.
  • المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1429هـ.
  • المظفر، محمد حسن، دلائل الصدق لنهج الحق، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1422هـ.
  • الموحدي النجفي، محمد باقر، البرهان السديد في الاجتهاد والتقليد، قم، دار التفسير، 1387ش.
  • الهاشمي الشاهرودي، محمود، فرهنگ فقه مطابق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، قم، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، 1382ش.