التبرك
التبرك، هو طلب البركة الدنيوية أو الاُخروية من الله تعالى بواسطة بعض الأشياء المباركة، كأسماء اللّه تعالى، والقرآن، والنبي ، وأهل البيت ، وغير ذلك ممّا اختصّه الله بعنايات وكمالات امتاز بها عن غيره.
اتّفق علماء الإسلام على مشروعية التبرّك بآثار النبي، وكذلك سيرة المسلمين عامة على التبرّك بالأشياء المباركة، كتبرّك الصحابة برسول اللّه وآثاره وما يعود إليه في حياته بمباشرته، بل وكذا بعد وفاته، فقد كانوا يزورون قبره ويتبرّكون به، وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة أهل البيت وأولياء اللّه الصالحين، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة والتابعين.
حتى أنّ بعضهم قد ألّف في ذلك المقالات والكتب، إلّا أنّ بعضهم قد شذّ فجوّز التبرّك بآثار النبي في حال حياته؛ لأنّ الصحابة كانوا يتبرّكون بها، ومنع من التبرّك بآثاره بعد مماته واعتبره شركاً.
تعريفه
- لغةً: التبرّك: هو طلب البركة، والبركة: هي الزيادة والنماء، والتبرّك بالشيء: طلب البركة عن طريقه، وتبرّكت به، أي تيمّنت به، والتبريك: هو الدعاء للإنسان وغيره بالبركة، وبارك اللّه فيه فهو مبارك، والأصل مبارك فيه، وبارك اللّه الشيء، وبارك فيه وعليه: جعل فيه البركة.[١]
- اصطلاحاً: لا يختلف المعنى الاصطلاحي للتبرّك عن معناه اللغوي، حيث يُراد به طلب البركة الدنيوية أو الاُخروية من الله ــ تبارك وتعالى ــ بواسطة بعض الأشياء المباركة، كأسماء اللّه تعالى، والقرآن، والنبي، وأهل البيت ، وغير ذلك ممّا اختصّه الله بعنايات وكمالات امتاز بها عن غيره.[٢]
التبرك في القرآن والسنة
- التبرك في القرآن الكريم
لم تُذكر كلمة التبرك في القرآن الكريم بشكل صريح، ولكن وردة بعبارات مختلفة، في 32 موضع من الآيات القرآنية ومنها: بارَكَ، بارَكنا، بورِكَ، تَبارَك، بَرَكات، بَرَكاتُه، مُبارَك، مبارَكاً، وغيرها من الألفاظ.
- قال تعالى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.[٣]
- قال تعالى: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ﴾.[٤]
- قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.[٥]
- قال تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾.[٦]
- قال تعالى: ﴿قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾.[٧]
- قال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.[٨]
- قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾.[٩]
- قال تعالى: ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾.[١٠]
- التبرك في السنة الشريفة
لقد ذُكر التبرك في الكثير من الروايات، ومنها:
- عن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعَرِّفَنِي ذَنْبِيَ ــ الَّذِي امْتُحِنْتُ بِهِ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ ــ فَقَالَ تَرْكُكَ حِينَ جَلَسْتَ أَنْ تَقُولَ ــ بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ــ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَدَّثَنِي عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُذْكَرُ بِسْمِ اللَّهِ فِيهِ فَهُوَ أَبْتَرُ.[١١]
- عَنِ ابْنِ الْقَدَّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَيُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ تَكْثُرُ بَرَكَتُهُ وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَ يُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ الْكَوَاكِبُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي لَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَ لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ.[١٢]
- عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ ــ فَائْتِ الْمِنْبَرَ فَامْسَحْهُ بِيَدِكَ وَ خُذْ بِرُمَّانَتَيْهِ ــ وَهُمَا السُّفْلَاوَانِ وَامْسَحْ عَيْنَيْكَ وَوَجْهَكَ بِهِ ــ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ ــ وَقُمْ عِنْدَهُ فَاحْمَدِ اللَّهَ وَأَثْنِ عَلَيْهِ وَ سَلْ حَاجَتَكَ ــ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ــ مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِــ وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ ــ وَالتُّرْعَةُ هِيَ الْبَابُ الصَّغِيرُ ــ ثُمَّ تَأْتِي مَقَامَ النَّبِيِّ فَتُصَلِّي فِيهِ مَا بَدَا لَكَ.[١٣]
ألفاظ ذات صلة
- الشفاعة: وهي من (شفع)، وهو ضمّ الشيء إلى مثله أو إلى الفرد،[١٤] وشفع لي يشفع شفاعة وتشفّع: طلب الشفاعة، واستشفعت به: طلبت الشفاعة.[١٥]
- والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وقد تكرّر ذكر الشفاعة في الأحاديث فيما يتعلّق باُمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم،[١٦] والنسبة بين البركة والشفاعة، أنّ البركة قد تكون من خلال شفيع وواسطة كالمعصومين.[١٧]
- والوسيلة: هي ما يتقرّب به إلى الغير،[١٩] قال تعالى: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾،[٢٠] وهي كذلك: المنزلة عند الملك، والدرجة، والقربة، والوصلة والقُربى، وتوسّل إليه بكذا: تقرّب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه،[٢١] والنسبة بين التبرّك والتوسّل هي العموم من وجه،[٢٢] "أي بعض التبرك يُطلق عليه توسل، وبعض التوسل يُطلق عليه تبرك".
- الاستغاثة: من (غوث)، وهي: طلب الغوث، وغوّث الرجل واستغاث: صاح واغوثاه، ويقول الواقع في بليّة: أغثني، أي فرّج عنّي،[٢٣] واستغثته: طلبت الغوث أو الغيث، فأغاثني من الغوث، وغاثني من الغيث،[٢٤] قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾،[٢٥] وأغاثه إغاثة، إذا أعانه ونصره، فهو مغيث، وأغاثهم اللّه برحمته: كشف شدّتهم.[٢٦]
مشروعية التبرك
اتّفق علماء الإسلام على مشروعية التبرّك بآثار النبي، وكذلك سيرة المسلمين عامة على التبرّك بالأشياء المباركة، كتبرّك الصحابة برسول اللّه وآثاره وما يعود إليه في حياته بمباشرته ودعوته بذلك، بل وكذا بعد وفاته، فقد كانوا يزورون قبره ويتبرّكون به، وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة أهل البيت وأولياء اللّه الصالحين، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة والتابعين،[٢٧] حتى أنّ بعضهم قد ألّف في ذلك المقالات والكتب، منهم: على سبيل المثال (تبرك الصحابة) للمحقّق العلّامة محمد طاهر بن عبد القادر، وهو من علماء مكّة المكرّمة.
إلّا أنّ بعضهم قد شذّ فجوّز التبرّك بآثار النبي في حال حياته؛ لأنّ الصحابة كانوا يتبرّكون بها، ومنع من التبرّك بآثاره بعد مماته واعتبره شركاً، وهم في هذا التفصيل قد وقعوا في ورطة الشرك من حيث لا يعلمون؛ فإنّ تخصيص جواز التبرّك بحياته لا ينفك عن الاعتراف بأنّ لحياته تأثيراً فيما يقصد في التبرّك من البرء والشفاء، ونزول المطر وغيره، أوَليس هذا الاعتقاد في مدرسة هؤلاء شرك ؟! إذ لازمه الاعتقاد بتأثير نفس النبي في برء المريض، ونزول المطر وهو نفس القول بأنّ للنبي سلطة غيبية على الكون.[٢٨]
ما يتبرّك به
التبرّك بالأسماء الإلهية والنبوية
التبرّك بأسماء اللّه تعالى وصفاته، كما في البسملة (بسم اللّه) و(بسم اللّه الرحمن الرحيم)،[٢٩] أمّا في التبرّك بأسماء الأنبياء والأوصياء فقد صرّحوا بأفضلية التبرّك والتيمّن بالتسمية بأسمائهم، سيّما أسم نبيّنا محمّد وأئمّتنا؛ وذلك لما في الأخبار الكثيرة،[٣٠] منها: عن الإمام الباقر قال: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ مَا سُمِّيَ بِالْعُبُودِيَّةِ ــ وَأَفْضَلُهَا أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ».[٣١]
التبرك بالقرآن الكريم
وهو كتاب اللّه المجيد وكلامه الشريف، له منزلة عظيمة في الدين الإسلامي والشريعة المقدّسة، وقد حث النبي وأهل البيت المسلمين على تلاوته، وكتابته وحفظه والاهتداء بهديه، والتدبّر في آياته، والاستشفاء والتبرّك به،[٣٢]
التبرّك بالأحاديث الشريفة ونحوها
جرت سيرة العلماء والصالحين على التبرّك بنقل الأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته وذكرها وحفظها، وكذا التبرّك بذكر طرقها باتّصال السلسلة بأصحاب العصمة.[٣٣]
التبرّك بالأدعية ونحوها
وذلك بقراءتها أو حملها أو كتابتها، سيّما في الأماكن المباركة، كمقام النبي، وهو الروضة المباركة بين القبر والمنبر النبويّين،[٣٤] وذكر بعض الفقهاء، أنّه يتبرّك بدعاء الإخوان المؤمنين.[٣٥]
التبرّك بالأنبياء والأئمّة والصالحين
1. التبرّك بالنبي وآثاره: منها:
- التبرك بماء وضوئه: أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي ليمثلها في صلح الحديبية مع رسول الله، وكلمه رسول الله بنحو ما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً، وبعدما تمت المذاكرة بين الطرفين قام عروة من عند رسول الله، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ، إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش، فقال يا معشر قريش، إني قد جئت کسرى في مُلکه، وقيصر في مُلکه، والنجاشي في مُلکه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء آبدأ، فروا رأيکم.[٣٦]
- التبرك بقدحه: اخرج البخاري في صحيحه عن أبي حازم عن سهل ابن سعد، أنه قال: فاقبل النبي يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: اسقنا يا سهل، فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه، وقال أبو حازم، فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال: ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له.[٣٧]
- التبرك بالقبر الشريف: آخرج الحاکم في مستدرکه عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري فقال: جئت رسول الله ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقول: لاتبکوا على الدين إذا وليه أهله ولکن ابکوا عليه اذا وليه غير اهله.[٣٨]
- التبرك في المواضع التي صلى فيها الرسول: أخرج البخاري عن مولى بن عقبة، قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماکن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلى فيها، وأنه رأى النبي يصلي في تلك الأمكنة، وحدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلا وافق نافعاً في الأمكنة كلها، إلا أنهما أختلفا في مسجد بشرف الروحاء.[٣٩]
- التبرك بعصا الرسول: أتى أبو حنيفة إلى أبي عبد اللّه، فخرج إليه يتوكّأ على عصا، فقال له أبو حنيفة: ما هذه العصا يا أبا عبد اللّه؟ ما بلغ بك من السنّ ما كنت تحتاج إليها، قال: «أجل، ولكنّها عصا رسول اللّه، فأردت أن أتبرّك بها»، قال: أما إنّي لو علمت ذلك وأنّها عصا رسول اللّه لقمت وقبّلتها، فقال أبو عبد اللّه: «سبحان اللّه، وحسر عن ذراعه وقال: واللّه يا نعمان، لقد علمت أنّ هذا من شعر رسول الله ومن بشره فما قبّلته! »، فتطاول أبو حنيفة ليقبّل يده، فاستلّ كمّه وجذب يده ودخل منزله.[٤٠]
2. التبرّك بأهل البيت وآثارهم:
- ذكر ابن شهر آشوب: أنّ عمر بن الخطّاب تبرّك بالحسنين في الاستسقاء، وغمس أيديهما في الدعاء، فلمّا كان عام رمادة،[٤١] قال عمر لأبي عبيدة: خذ هذا البعير بما عليه فائت أهل البيت، فانحره بينهم، ومرهم أن يقدّدوا اللحم وليجملوا الشحم وليلبسوا الغرائر وليعدّوا ماءً حارّاً، فإن احتاجوا إلى اللحم أمدّوهم، ثمّ خرج يستسقي، فسقي.[٤٢]
- قال رسول الله لعلي : «إنّ فيك لشبهاً من عيسى بن مريم، ولولا مخافة أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا تمرّ بملأ من الناس إلاّ أخذوا من تحت قدميك التراب، يبتغون به البركة...».[٤٣]
3. التبرّك بسائر الأنبياء والأولياء والصالحين وآثارهم:
- التبرّك بمقام إبراهيم : لقد اعتبر اللَّه ــ سبحانه وتعالى ــ بعض الأراضي التي لامست بدن دعاة التوحيد، محلًا للعبادة، فعلى سبيل المثال جعل من مقام إبراهيم مصلّى، حيث قال سبحانه: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾،[٤٤] ولا ريب أنّ الصلاة نفسها لا تختلف من الناحية الجوهرية، سواء أُقيمت في هذا المقام أو سائر نقاط المسجد، وهذا يكشف عن أنّ المقام المذكور قد اكتسب بسبب وجود النبي إبراهيم ميزة أُخرى، فأصبح مكاناً مباركاً، لذلك تجد المصلّي يأتي بصلاته هناك لأجل التبرّك بذلك المكان الطاهر.[٤٥]
- قميص يوسف وعودة البصر إلى يعقوب: لقد عانى يعقوب ألم فراق ولده العزيز يوسف عليه السلام ردحاً طويلًا من الزمن، ولقد بكاه طوال تلك المدّة حتّى فقد بصره إلى الدرجة التي وصفه فيها الذكر الحكيم بقوله: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾.[٤٦] فشاءت الإرادة الإلهية أن يعود إلى يعقوب بصره عن طريق قميص ولده يوسف عليه السلام حيث ــ قال تعالى ــ على لسان يوسف : ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾.[٤٧] ولا ريب أنّ قميص يوسف عليه السلام لا يختلف من الناحية المادية أو من ناحية الشكل عن غيره، ولكن تعلّقت الإرادة الإلهية بأن يصدر الفيض الإلهي إلى عبده يعقوب من خلال هذا الطريق، وقد صرّح القرآن الكريم بهذه الحقيقة حيث قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً﴾.[٤٨]
- تابوت بني إسرائيل والسكينة: لقد وضع موسى وفي الأيام الأخيرة من عمره الشريف، الألواح المقدسة التي تحتوي على شريعته، ودرعه وسلاحه وآثاره الأُخرى في صندوق، وجعل الصندوق عند وصيّه «يوشع بن نون“، ومن هنا اكتسب هذا الصندوق أهمية كبرى لدى بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم أثناء الحروب التي تقع بينهم وبين خصومهم متبرّكين به، ومستنزلين النصر من اللَّه عن طريقه، وكانوا يعيشون حياة عزيزة مادام ذلك الصندوق المبارك بين ظهرانيهم، ولكن لمّا دبّ فيهم الضعف الديني، وقلّ تأثير الوازع الأخلاقي في أوساطهم، تمكّن خصومهم من هزيمتهم والتغلّب عليهم، وتمكّنوا كذلك من نهب ذلك الصندوق المبارك.
- لمّا اختار اللَّه سبحانه، بعد فترة من الزمن، طالوت ملكاً وقائداً لبني إسرائيل، قال لهم نبيّهم: إنّ آية صدقه وكونه قائداً منصباً من قبله سبحانه هو أن يأتيكم ذلك الصندوق، ولقد أشار الذكر الحكيم إلى ذلك بقوله سبحانه: ﴿وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾،[٤٩] والإمعان في الآية المباركة يكشف أنّ القرآن الكريم ينقل لنا على لسان نبيه، تبرّك بني إسرائيل بذلك الصندوق ويؤكّد كذلك مدى قيمته وشرفه بحيث تحمله الملائكة، ولو كان هذا العمل مخالفاً لأُصول التوحيد ومتعارضاً معها، فكيف ياترى جاز لذلك النبي أن يلقي إليهم الخبر على نحو البشرى.[٥٠]
- التبرّك بمقام أصحاب الكهف: حين اكتشف المؤمنون والموحّدون المكان الذي اختفى فيه الفتية «أصحاب الكهف»، فأخذوا يتداولون الأمر بينهم ماذا نعمل؟ فكان إطباق الجميع واتّفاقهم على أن يبنوا على قبورهم مسجداً ليكون محلًا للعبادة وللتبرّك بالعبادة إلى جنب تلك الأجساد الطاهرة، ولقد نقل لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله سبحانه: ﴿قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾،[٥١] قال المفسّرون: إنّ الهدف من بناء المسجد هو إقامة الصلاة والتبرّك بأجسادهم الطاهرة.[٥٢]
التبرّك بالأشياء
تعدّدت الأشياء التي ورد في الشرع رجحان التبرّك بها، وهي:
- التبرّك بالحجر الأسود وأركان الكعبة وكسوتها ونحوها: ذكر الفقهاء أنّه يتبرّك بالحجر الأسود ويستحبّ استلامه وتقبيله والتحبّب إليه،[٥٣]
- التبرك بماء زمزم وشجرة الحديبية: ذكر بعض الفقهاء استحباب إتيان ماء زمزم والشرب منه؛ للتبرّك بذلك، والدعاء بعده،[٥٤] بقوله: «اللّهمّ اجعله علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كلّ داء وسقم»،[٥٥] وكذلك في شجرة الحديبية، التي بويع رسول اللّه بيعة الرضوان تحتها، فقد كان بعض المسلمين يصلّون تحتها؛ تبرّكاً بها، وشكراً للّه تعالى على ما بلّغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة.[٥٦]
- التبرّك بالتربة: أمّا التبرّك بالتربة فقد تعرّضوا له في التربة الحسينية، لكنّ المستفاد من كلمات بعضهم شموله للتربة الطاهرة للأنبياء والأئمّة ، بل تربة سائر قبور الشهداء والعلماء إذا أُخذت بقصد التبرّك، وأفرد الحرّ العاملي باباً بعنوان: «باب استحباب الاستشفاء بتربة الإمام الحسين والتبرّك بها وتقبيلها، وتحنيك الأولاد، واستصحابها عند الخوف وعند المرض».[٥٧]
- التبرّك بماء الفرات وماء السماء: ذكر الحر العاملي باباً في الوسائل في التبرّك بماء الفرات بعنوان «باب استحباب الشرب من ماء الفرات والاغتسال فيه والتبرّك به والتحنيك به»،[٥٨] وأمّا التبرّك بماء السماء، فقد ورد في الخبر: أنّ رجلاً قال لأمير المؤمنين :إنّي موجع بطني، فقال: «ألك زوجة ؟» قال: نعم، قال: «استوهب منها شيئاً من مالها طيّبة به نفسها، ثمّ اشتر به عسلاً، ثمّ اسكب عليه من ماء السماء، ثمّ اشربه، فإنّي سمعت الله سبحانه يقول في كتابه: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً﴾،[٥٩] [٦٠]
التبرّك بالأماكن
تعرّض العلماء للتبرّك بالأماكن المتبرّكة، كالتي في مكة، والمدينة، والنجف، وكربلاء، ومشهد، وغيرها.
- في مكة: ذكر بعضهم: التبرّك بالكعبة بالطواف، والمشي حولها، بما فيها حجر إسماعيل،[٦١] وممّا عدّه بعضهم من المستحبّات إتيان بعض المواضع المتبرّكة بمكّة كمكان مولد رسول اللّه، ودار خديجة ، التي هي دار الوحي ومولد سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، والغار الذي بجبل حراء، الذي كان الرسول في ابتداء الوحي يتعبّد به، والغار الذي بجبل ثور، الذي استتر فيه الرسول عن المشركين، والحطيم، الذي هو قدر من حائط البيت، ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، والمعجن، الذي هو موضع قريب من حائط البيت، ومصلّى الرسول، ما بين الحجر الأسود والركن اليماني قريب من حائط البيت.[٦٢]
- في المدينة المنورة التبرك بالمساجد، والآثار النبوية، والأماكن الشريفة، وذلك بالزيارة والصلاة فيها،[٦٣] خاصّة زيارة قبر الرسول الأعظم والتبرّك بلثم تلك الأعتاب الطاهرة، والحضور في تلك المشاهد الشريفة.[٦٤]
- التبرّك بمشاهد الأئمة، فقد وردت فيه أخبار كثيرة، ذكر الحر العاملي منها: عن إسحاق بن داود، قال: أتى رجل أبا عبد اللّه فقال له: إنّي قد ضربت على كلّ شيء لي من فضّة وذهب وبعت ضياعي... فأين أنزل؟ قال: «عليك بالعراق الكوفة، فإنّ البركة منها على اثني عشر ميلاً، وإلى جانبها قبر ما أتاه مكروب ولا ملهوف إلاّ فرّج اللّه عنه».[٦٥]
التبرّك بالأزمنة
ورد ذِكر الأوقات والأزمنة المتبرّكة، سيّما التي لها اختصاص بالنبي وأهل بيته، كأيّام ولاداتهم، ويوم المبعث، والمباهلة، وعيد الغدير، وكذا يوم الجمعة، وأيّام شهر رمضان وغيرها، في كتب الحديث والسير والتأريخ، مضافاً إلى كتب الفقه، حيث ذكر العلماء ذلك كلاًّ أو بعضاً في أبحاث مختلفة من كتبهم، كبحث الصلاة، والصوم، والحج، والزيارة وغيرها.[٦٦]
الهوامش
- ↑ الفيومي، المصباح المنير، ص 45.
- ↑ موسوعة الفقه الإسلامي، ج 24، ص 163.
- ↑ هود: 48.
- ↑ الصافات: 113.
- ↑ النمل: 8.
- ↑ مريم: 31.
- ↑ هود: 73.
- ↑ الأنعام: 155.
- ↑ سورة ق: 9.
- ↑ النور: 35.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 7، ص 170، ح 4.
- ↑ الكليني، الكافي، ج 2، ص 611، ح 3.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 14، ص 345، ح 1.
- ↑ الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 272.
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 7، ص 151 ــ 152.
- ↑ الفيومي، المصباح المنير، ص 317.
- ↑ موسوعة الفقه الإسلامي، ج 24، ص 164.
- ↑ الفيومي، المصباح المنير، ص 660.
- ↑ الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 546.
- ↑ المائدة: 35.
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 301.
- ↑ موسوعة الفقه الإسلامي، ج 24، ص 164.
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 139.
- ↑ الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 382.
- ↑ الأنفال: 9.
- ↑ الفيومي، المصباح المنير، ص 617.
- ↑ موسوعة الفقه الإسلامي، ج 24، ص 165.
- ↑ موسوعة الفقه الإسلامي المقارن، ج 4، ص347.
- ↑ كاشف الغطاء، كشف الغطاء، ج 3، ص 452.
- ↑ السبزواري، مهذب الأحكام، ج 25، ص 259.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 21، ص 391، ح 1.
- ↑ الحكيك، مستمسك العروة، ج 2، ص 285.
- ↑ البحراني، الحدائق الناضرة، ج 17، ص 404.
- ↑ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 100، ص 164ــ172.
- ↑ الهمداني، مصباح الفقيه، ج 2، ص 247.
- ↑ الهندي، كنز العمال، ج 10، ص 493.
- ↑ البخاري، صحيح البخاري، ص 1429، ح 5637.
- ↑ مستدرك الحاكم، ج 4، ص 560، ح 8571.
- ↑ صحيح البخاري، ج، ص 128ــ129، ح 438.
- ↑ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 10، ص 222.
- ↑ عام الرمادة :معروف؛ سمّي بذلك لأنّ الناس والأموال هلكوا فيه كثيراً، وقيل: هو لجدب تتابع فصيّر الأرض والشجر مثل لون الرماد، وقيل: هي أعوام جدب تتابعت على الناس في أيّام عمر بن الخطاب، ابن منظور، لسان العرب، ج 5، ص 312 .
- ↑ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 223.
- ↑ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 35، ص 315، ح 4.
- ↑ البقرة: 125.
- ↑ السبحاني، الملل والنحل، ج 4، ص 180.
- ↑ يوسف: 84.
- ↑ يوسف: 93.
- ↑ يوسف: 96.
- ↑ البقرة: 248.
- ↑ السبحاني، الملل والنحل، ج 4، ص 182.
- ↑ الكهف: 21.
- ↑ السبحاني، الملل والنحل، ج 4، ص 183.
- ↑ النراقي، مستند الشيعة، ج 12، ص 63ــ68.
- ↑ المقنعة : 420 ـ 421، 430
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 13، ص 247، ح 1.
- ↑ شرف الدين، النص والاجتهاد، ص 368.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 14، ص 521، ب 70.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 14، ص 404، ب 34.
- ↑ سورة ق: 9.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 25، ص 100، ح 14.
- ↑ الجديع، التبرك أنواعه وأحكامه، ص 106.
- ↑ الشهيد الأول، الدروس الشرعية، ج 1، ص 468.
- ↑ العسكري، معالم المدرستين، ج 1، ص 21ــ22.
- ↑ الگلبايگاني، مناسك الحج، ص 186.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 14، ص 443، ح 1.
- ↑ العاملي، مدارك الأحكام، ج 6، ص 258 ــ 271.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، بيروت، دار الأضواء، 1412هـ/ 1991م.
- ابن منظور، أبي الفضل جمال الدين، لسان العرب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1408هـ.
- البحراني، يوسف بن احمد، الحدايق الناضرة في أحکام العترة الطاهرة، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1409هـ.
- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/ 2002م.
- الجديع، ناصر بن عبد الرحمن، التبرك أنواعه وأحكامه، الرياض، مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ/ 2000م.
- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1410هـ.
- الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1411هـ/ 1990م.
- الحكيم، سيد محسن، مستمسك العروة الوثقى، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د.ت.
- الراغب الأصفهاني، أبي القاسم حسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1428هـ/ 2008م.
- السبحاني، جعفر، بحوث في الملل والنحل، قم، مؤسسة الإمام الصادق ، ط1، 1427هـ.
- الشهيد الأول، محمّد بن مكّي العاملي، الدروس الشرعية، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1414هـ.
- العاملي، السيد محمد بن علي، مدارك الأحكام، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1410هـ.
- العسكري، السيّد مرتضى، معالم المدرستين، طهران، مؤسسة البعثة، 1412هـ/ 1992م.
- العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403هـ/ 1983م.
- الفيومي، أحمد بن محمد بن علي، المصباح المنير، قم، مؤسسة دار الهجرة، 1405هـ.
- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط4، 1407ه.
- الگلبايگاني، السيّد محمّد رضا، مناسك الحج، قم، دار القرآن الكريم، 1413هـ.
- النراقي، أحمد بن محمد، مستند الشيعة، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ط1، 1429هـ.
- الهمداني، آغا رضا بن محمد هادي، مصباح الفقيه، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي، 1432هـ/ 2011م.
- الهندي، عماد الدين علي، كنز العمال، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405هـ.
- شرف الدين، عبد الحسين، النصّ والاجتهاد، قم، سيّد الشهداء ، 1404هـ.
- كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، كشف الغطاء، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1422هـ.