دار التقريب بين المذاهب الإسلامية

من ويكي شيعة

دار التقريب بين المذاهب الإسلامية هي جمعيّة ورابطة تضم مجموعة من علماء المسلمين من مختلف الطوائف الإسلامية بهدف التقريب بين المذاهب الإسلامية. تأسست الدار في سنة 1947 م على يد عدد من العلماء في القاهرة وكان من أبرزهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد تقي القمّي نائباً عن آية الله بروجردي، ولقد تعرّضت فكرة التقريب إلى مصاعب وتحديات، كما أشار إلى ذلك الشيخ محمود شلتوت، وأصدرت الدار مجلة رسالة الإسلام والتي صدر العدد الأول منها سنة 1949 م، واستمرت في الصدور حتى وصلت إلى العدد ستين الذي صدر سنة 1972 م، ثم حصلت بعض الأحداث فأدت إلى إغلاق الدار عام 1979، وواصل بعض العلماء والمفكرين الحريصين على فكرة التقريب عملهم تحقيقاً للهدف الأسمى من وحدة المسلمين فشهدت كثير من العواصم الإسلامية مؤتمرات تدعو إلى وحدة الأمة الإسلامية وذلك من خلال التقريب بين المذاهب الإسلامية، فأقام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية مؤتمراً دولياً سنوياً في العاصمة الإيرانية طهران والذي عقد حتى الآن ثمانية عشر مؤتمراً في هذا الموضوع كما عقدت مؤتمرات أخرى في الموضوع نفسه في كل من الرباط وكوالالمبور والجزائر العاصمة والمنامة.[١]

الشيخ محمد تقي القمّي

ظروف التأسيس

سبقت فكرة تأسيس دار التقريب أفكارٌ أخرى متصلةٌ بمجال الوحدة الإسلامية ووحدة الأمة، منها فكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السيد جمال الدين الأفغاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وعرفت بها حركته الإصلاحية، وأراد منها التأكيد على حقيقة أن مصير العالم الإسلامي ومستقبله وتقدمه لا يتحقق إلا من خلال مفهوم الجامعة الإسلامية.


وبعد أن تراجعت فكرة الجامعة الإسلامية بعد غياب الأفغاني، وتلاشي دولة الخلافة العثمانية التي ارتبطت بها هذه الفكرة، ظهرت مكانها أفكار أخرى، كان من أبرزها فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية.[٢]

وقد كانت ظروف العالم الإسلامي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الميلادي الماضي شديدة التوتر بين السنّة والشيعة، وكان أعداء الاسلام قد نجحوا في خلق حواجز ضخمة بين المذاهب، يتراشق أصحابها التهم بينهم، دون أن يفكروا في الجلوس على طاولة واحدة ليسمع كل منهم حديث الآخر بمعزل عن الطعن والتجريح والتشنّج.

في تلك الأثناء ظهر نبأ إعدام رجل ايراني من أبناء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) هو السيد أبو طالب اليزدي في موسم الحج بأرض الحجاز، بزعم أنّه أراد أن يهين الكعبة، وتوجّهت الأنظار إلى السعودية لتستطلع الخبر. فجاء التحقيق معبّراً عن جوّ من انعدام الثقة والشبهة والتهمة بين المسلمين، فقد أُصيب الرجل في الطواف بحالة غثيان، وأراد الخروج من بين الطائفين، لكنه لم يتمالك نفسه، فحرص على أن لا يلوّث أرض المسجد، وجمع ثيابه وألقى قَيأه فيه. ولمّا أسرع للخروج، استوقفه شرطي وسأله عمّا يحمله، فلّما رأى ما رأى ولم يفهم من السيد أبو طالب توضيحاته بالفارسية، أخذه وسلّمه إلى القضاء. وهناك أيضا لم يفهموا ما يقوله السيد، فأفرزت ذهنيات القضاة أنّ هذا الرجل الإيراني إنّما أتى الى بيت اللّه الحرام بقصد إهانته، وما حمله هذا الايراني إنما كان يستهدف به تنجيس الكعبة، ثم حكموا عليه بالإعدام وضربوا عنقه.

هذا الحادث هزّ الشيخ محمد تقي القمّي، ودفعه إلى أن يتحرّك لكسر حواجز العزلة بين السنّة والشيعة، وكان لابدّ أن يكون هذا التحرك في مركز قادر على أن يؤثّر على كل العالم الاسلامي، وليس أفضل لهذا الأمر من الأزهر والقاهرة.[٣]

سفر الشيخ محمد تقي القمّي إلى لبنان

رأى الشيخ محمد تقي القمّي أنّ مشروعه يحتاج أولاً الى إتقان التحدث والتخاطب باللغة العربية. فذهب إلى لبنان، وأقام في قرية لبنانية يعاشر أدباءها وشيوخها، ويعكف على التحدث باللغة العربية لمدة سبعة أو ثمانية أشهر.

الرحيل الى مصر وتأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية

ترك الشيخ محمد تقي القمّي لبنان ورحل الى مصر، واتصل هناك بالشيخ محمد المراغي، وكان يومذاك شيخ الأزهر الشريف، وطرح عليه فكرة التواصل بين المذاهب الاسلامية، والتعارف بينها. تجاوب الشيخ المراغي مع الفكرة، واقترح على الشيخ القمي أن يبدأ عمله من التدريس في الأزهر، وأن يبدأ من تدريس الفلسفة، فبدأ الشيخ القمّي بالتدريس واشتغل ردحاً من وقته في مكتبة الجامعة. واستأجر بيتاً بسيطاً لسكنه ولنشاطه العلمي (أصبح فيما بعد مقر دار التقريب في القاهرة)،

الشيخ مصطفى المراغي

قد وفّر الشيخ المراغي للشيخ القمّي فرصة الإتصال بفئة كبيرة من العلماء والأدباء والمثقفين، فأنشأ علاقات واسعة مع الأساتذة والعلماء،وكانت الجلسات تتوالى في بيته أو في أروقة الجامعة، تُطرح فيها هموم المسلمين، ومشكلة الطائفية، والشبهات المذهبية، وبهذا نضّجت فكرة التقريب، وزادت من عدد المؤمنين بها، منهم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي أصبح فيما بعد شيخاً للازهر، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت وكلاهما أيضا توليا مشيخة الازهر فيما بعد، والشيخ محمد محمد المدني، والشيخ محمد علي علوبه باشا، ثم اختار الشيخ القمّي جمعاً آخر فيهم الشيخ حسن البنا والشيخ عبد العزيز عيسى، والشيخ علي المؤيد من اليمن والسيد الآلوسي نجل صاحب تفسير روح المعاني. ومن هذا الجمع تشكلت النواة الأولى لجماعة التقريب، وأقامت هذه الجماعة مؤسسة هي دار التقريب، واتخذت هذه المؤسسة من بيت الشيخ القمي مقراً لأعمالها.


لقد شكّل أول مجلس إدارة لـدار التقريب في عام 1947 م، وضمّ عشرين عضواً، وكان معهم عدد آخر من العلماء يمثلون الشيعة الإمامية والزيدية.

ترأّس الجمعية في أول تأسيسها أحد المصلحين في مصر آنذاك، هو محمّد على علوبة باشا الذي كان وزيراً في عدة حكومات للأوقاف والمعارف وعينته مصر أول سفير لها في باكستان. وكان من بين الأعضاء الشيخ عبد المجيد سليم رئيس هيئة الفتوى بالأزهر، والشيخ أحمد حسين مفتي وزارة الأوقاف، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمّد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر، والشيخ عيسى ممنون عضو هيئة كبار العلماء ورئيس الجمعيات الشرعية، والشيخ حسن البنا رئيس الإخوان المسلمين، والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ علي الخفيف، وهما من أساتذة الفقه والتشريع في الأزهر، والشيخ محمّد المدني الأستاذ بالأزهر (أصبح وكيلا للأزهر فيما بعد).

وإلى جانب هؤلاء كان من بين الأعضاء الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين

مفتي القدس الحاج الشيخ أمين الحسيني

، والشيخ محمّد تقي القمّي ممثلا للشيعة الإمامية، وعلي بن إسماعيل المؤيد، والقاضي محمّد بن عبدالله العمري، عن الشيعة الزيدية.

وقد بيّن النظام الأساسي للجمعية أنّها تتطلع إلى ما هو أبعد من جمع كلمة المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وإنّما طمحوا لأن يصبح الكيان الجديد بمثابة رابطة أو جامعة للشعوب الإسلاميّة تتجاوز حدود مصر، فقد نصّت المادة الخاصة بأغراض الجماعة على أنّ من تلك الأغراض؛ "السعي إلى إزالة ما يكون من نزاع بين شعبين أو طائفتين من المسلمين والتوفيق بينهما" و… "عقد مؤتمرات إسلامية عامة تجمع زعماء الشعوب الإسلاميّة في الأمور الدينية والاجتماعية". فضلاً عن ذلك فإنّ الجمعية أرادت أن تقوم بدور في الدعوة إلى الإسلام عن طريق "نشر المبادئ الإسلاميّة باللغات المختلفة وبيان حاجة المجتمع إليها".

إنجازات الدار

مجلة رسالة الاسلام

صدرت هذه المجلة سنة 1368 هـ، واستمرّت حتّى سنة 1392 هـ ، بأربعة أعداد سنوياً، بَيد أنّها عاشت بين مدٍّ وجزر في الصدور حتّى بلغ مجموع ما صدر منها ستّين عدداً. ولم تكن المجلة متحدّثةً باسم دار التقريب فقط، بل كانت ناشرة لأفكار غيرها من الشخصيات الإسلامية حيث كانوا يعبّرون عن آرائهم بشكل صريح في إطار المبادئ الإسلامية العامّة. وسرعان ما أصبح للمجلّة موضع قدم في كافة أرجاء العالم الإسلامي، ونالت ثقة كثير من علماء المذاهب، وأصبحت محطّ أنظار المفكّرين الإسلاميين، فكانوا يراسلونها من أجل أن يعلنوا عن دعمهم لخطّ التقريب، أو ينقدوها بكل نزاهة وتحمّس.

وكانت تطرح فيها جميع الآراء والأفكار، والتّساؤلات مع أجوبتها المناسبة. وكان علماء المذاهب الإسلامية يعبّرون عن آرائهم وأفكارهم جنباً إلى جنب على صفحات تلك المجلة لأوّل مرة بعد قرون من الغربة والجفاء.

الكاتبون في المجلّة

ومن بين الكتّاب الذين رفدوا المجلة: علماء ومراجع تقليد شيعة من النجف وقم، ومشايخ وعلماء من الأزهر في مصر، وأساتذة الجامعات الإسلامية، وكتّاب آخرون معروفون.

فمن الشيعة: المرجع السيد حسين البروجردي، والشيخ محمد تقي القمّي، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، والشيخ محمد صالح المازندراني، والشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ عبد الحسين الرشتي، والشيخ عبد الحسين ابن الدين، والسيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخونساري.

ومن السنّة: الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت،الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد محمد المدني (رئيس تحرير المجلة)، والأستاذ الشيخ عبد العزيز عيسى(مدير إدارة المجلة)،وآخرون غيرهم.

الإمام محمد أبوزهرة

ومن الكتّاب يومذاك: أحمد أمين، وعباس محمود العقاد، ومحمد فريد وجدي، وأمثالهم.[٤]

المراسلات بين السيد البروجردي والشيخ عبد المجيد سلام

من الشخصيات التي برزت في دار التقريب الشيخ عبد المجيد سليم. ويظهر في أحاديث الشيخ عبد المجيد سليم وكتاباته ما كان يحمله من عواطف لأهل بيت رسول اللّه صلی الله عليه وآله وسلم، فقد كان يسعى الى رفع الظلم التاريخي عن مدرسة أهل البيت وأتباعهم. وهذا هو سرّ إصراره على إزالة حواجز العزلة بين السنّة والشيعة. واهتمامه بأمر التقريب جعله مرتبطا بالجماعة ارتباطاً وثيقاً حتى بعد اعتلائه مشيخة الاْزهر. وكان توقيعه يحمل دائما لقب: "شيخ الازهر ووكيل جماعة التقريب".

والشيخ عبد المجيد سليم هو أول من راسل السيد حسين البروجردي في قم، وهي مراسلة هامة للغاية بين أكبر شخصيتين سنية وشيعية آنذاك، وظلت هذه المراسلات تتوالى عن طريق الشيخ القمي أو المسافرين بين مصر وإيران. وكان السيد البروجردي يردّ على رسائله بكل إجلال واحترام.

الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الازهر.jpg

وفي مرّة أرسل السيد البروجردي كتاب المبسوط للشيخ الطوسي- وهو دورة كاملة في فقه الشيعة - إلى الشيخ عبد المجيد سليم، فأعجب الشيخ بالكتاب، وكان يقول: متى ما أردت أن أشارك في جلسة استفتاء أراجع كتاب المبسوط، وكان لاطلاعه الواسع على فقه الشيعة أثر في فتاواه الفقهية التي تتجلّى فيها روح التقريب.

الشيخ عبد المجيد سليم وفتواه بجواز التعبد بفقه الشيعة

كان لتعرف الشيخ عبد المجيد سليم على فقه الشيعة وفهمه لأصول هذا الفقه وسعة أبعاده وقربه من روح الشريعة أثر كبير على اتجاه نشاطات الشيخ. فقد نشر في جوّ الازهر الفقه المقارن، ثم رأى الجوّ مهيئاً لصدور فتوى جواز التعبّد بفقه الشيعة، وكان ذلك قبل عشر سنوات من صدور فتوى الشيخ شلتوت بهذا الشأن.

هيئ الشيخ أذهان جماعة التقريب وأفكارهم لهذا الأمر. وتقرر دراسة صيغة الفتوى في جلسة تعيّن وقتها. وقبل أسبوع من تلك الجلسة المقررة وصلت الى جميع أعضاء جماعة التقريب طرود بريدية مبعوثة من عواصم أوروبيّة مختلفة، أُرسلت على عناوينهم في محل عملهم، وأرسل نظيرها على عنوانهم في بيوتهم، وهي تحمل ما ينسف فكرة إصدار الفتوى. ففي توقيت دقيق تحركت هذه القوى للوقوف بوجه خطوة هامة من خطوات التقريب.

حضر الأعضاء في الجلسة المقررة وهم يحملون تلك الطرود، وإذا ببعض الاعضاء يرفعون صوتهم قائلين: "أتريدون أن نصدر فتوى في جواز العمل بفقه الشيعة وهم يعادون الصحابة؟"، ثم فتح كل منهم طرده وأخرج منه كتاباً منسوباً الى أحد علماء الشيعة يتحامل فيه على الخليفتين الأول والثاني. وقالوا: "هذه وثيقة تبين طبيعة الشيعة وأفكارهم تجاه الخلفاء فماذا تقولون؟". يقول الشيخ القمّي: "استولى عليّ الوجوم، فما عدت قادراً على الكلام في هذا الجوّ المتشنّج". نظرت الى الشيخ عبد المجيد فرأيته ينظر الى كل واحد من المتكلمين بهدوء وطمأنينة. وعندما تكلم الجميع وساد الجوّ هدوء نسبي، تناول الشيخ سليم الحديث وقال: "هلّا سألتم أنفسكم من أين جاءت هذه الطرود؟ وما هو هدف مرسليها؟ ولماذا أرسلوها في هذا الوقت بالذات؟" ثم استرسل في الحديث قائلاً: " لو أنّ الشيعة والسنّة لم يكن بينهما اختلاف لما احتجنا الى التقريب والى جماعة التقريب ودار التقريب ومجلة رسالة الإسلام، لكننا بعد علمنا بوجود الاختلاف نهضنا بهذا المشروع، كي نركّز على المشتركات ونقلل الاختلافات ونزيل الشبهات. ثم انظروا إلى هذه الأيدي التي فعلت فعلتها بطباعة كتاب يثير حساسيات أهل السنّة تجاه الشيعة في أوروبا، وأرسلته في هذا الوقت الحساس إليكم، أهي حادبة (أي محبّة) على أهل السنّة؟ أيهمها مصلحة المسلمين؟ وهلا سألتم أنفسكم عن صحة نسبة هذا الكتاب الى مؤلّفه؟ ولو قدّر أنّ هذه النسبة صحيحة، فهل ماجاء فيه يخرج المسلم من دائرة الإسلام ويفكّه من رباط الاخوة الاسلامية؟" بعد ذلك هدأ الجوّ، ولكنّ صدور الفتوى تأخر عشر سنوات حين أقدم الشيخ محمود شلتوت على تنفيذ المشروع.

عبد المجيد سليم وتفسير مجمع البيان

ومن المشاريع التقريبية التي نهض بها الشيخ عبد المجيد سليم إدخال تفسير "مجمع البيان" الى ساحة العالم الاسلامي. فحين اطلع الشيخ على هذا التفسير وجد فيه بغيته، ورآه التفسير الذي يجمع بين العمق العلمي، والسعة والشمول والوضوح والمنهجية، والابتعاد عن التعصب، والجمع بين آراء أهل السنة والشيعة. فكتب الى دار التقريب رسالة يشيد بهذا التفسير ويستحث الجماعة على طباعته. وكتب في مقدمته على هذا التفسير: "هو كتاب جليل الشأن غريز العلم كثير الفوائد، حسن الترتيب لا أحسبني مبالغاً اذا قلت إنه في مقدمة كتب التفسير التي تعد مراجع لعلومه وبحوثه". وهذا الحثّ دفع الشيخ محمود شلتوت أن يطالع هذا التفسير بإمعان، فشُغف به حباً يتضح من المقدمة التي دوّنها لهذا التفسير، وطبع هذا التفسير تتصدرها رسالة الشيخ سليم ومقدمة الشيخ شلتوت.

الشيخ محمود شلتوت مفسراً وجامعاً للأحاديث المشتركة

كان الشيخ شلتوت مفسّراً وأديبا، وقد خصّ كلّ جزء من أجزاء مجلة "رسالة الاسلام" بحلقة من التفسير يجمع فيها بين الوضوح والعمق والاصالة والمعاصرة.

ومن مظاهر نشاطه التقريبيّ ارتباطه بمراجع الشيعة وهو على رأس مشيخة الازهر. فقد راسل السيد البروجردي في قم وراسل السيد محسن الحكيم في النجف. وفي عهده بدأ العمل بتنفيذ مشروع "شلتوت - القمي"، ويقضي بجمع أحاديث السنة والشيعة في الموضوعات المختلفة، وهو عمل تقريبي هام يوفّر للباحثين سبل التحقيق، ويوضّح ما بين الفريقين من تقارب في السنّة بعد اتفاقهما الكامل على كتاب اللّه تعالى. وكان المشرف على تنفيذ المشروع الشيخ محمد محمد المدني، ثم إجتمع عدد من تلاميذ الشيخ شلتوت ليواصلوا هذه الاطروحة.

فتوى الشيخ شلتوت

الفتوى الشهيرة التي أصدرها الشيخ محمود شلتوت توّجت أعماله التقريبية. وبعد أن حالت سنوات التآمر على المخطط، حانت الفرصة لاصدار الفتوى، حين أَقرّ الدستور اللبناني التقسيم الطائفي بين المسلمين بشكل ملفت ومريب، فقد أقرّ الدستور تقسيم الشعب اللبناني الى مسيحيين، والى مسلمين سنة، وإلى مسلمين شيعة؛ فاعتبر الدستورُ المسيحيين على اختلاف طوائفهم أمّةً واحدةً، وصيّر من المسلمين أمتين. واتجهت الخطّة الى تركيز هذه التفرقة الطائفية بين المسلمين عن طريق تقوية كل منهما ليكون مقابلا للآخر. ثم أقرّ الدستور أن يكون الرئيس اللبناني مسيحياً لأن عدد المسيحيين كان في ذلك الوقت أكثر من عدد المسلمين السنة على انفراد، وأكثر من عدد المسلمين الشيعة على انفراد. وأمام هذا التركيز الطائفي نهض الشيخ شلتوت لمعالجة هذا الموقف.

محاولة الشاه

حين صدرت الفتوى شاء نظام الشاه أن يستثمرها لصالحه؛ لأنه طالما تظاهر بأنه نصير الشيعة والتشيّع في العالم، وعلم الشيخ القمي وهو في إيران أن الاذاعة والتلفزيون سيقطعان بثّ الاخبار فجأة، ويريدان أن يذيعا نبأ الفتوى محاطة بتجليل وتبجيل، حينها اتصل الشيخ القمي بالمسؤولين الاعلاميين وطلب منهم أن لا يفعلوا ذلك، فأجابوه: إنها أوامر الشاه، عند ذلك سارع الشيخ للقاء الشاه، وأصرّ عليه أن لا يحدث ذلك. قال له الشاه: أنا فعلت ذلك لصالح الفتوى ولصالح التقريب. ولكنه واجه إصرار الشيخ القمي، فاضطرّ الشاه أن يسحب تعليماته الى الإذاعة والتلفزيون، وخرج القمي والشاه مستاء.

إعلان الفتوى

اختار الشيخ القمي محفلاً علمياً يعلن فيه الفتوى في إيران، فاختار مدينة مشهد المقدسة مثوى الإمام الرضا عليه السلام. وقد ضم المحفل جمعاً من كبار العلماء على رأسهم السيد محمد هادي الميلاني. بالمناسبة كان بين الحاضرين الامام السيد علي الخامنئي وكان آنئذ في بداية شبابه، كما كان أيضا الاستاذ الشيخ واعظ زاده الخراساني وهو الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية حالياً.

فاعلية الفتوى بعد وفاة الشيخ شلتوت

رغم التأييد الكبير الذي حظيت به فتوى الشيخ شلتوت، إلّا أنه ومن جهةٍ أخرى لاقى من جراء فتواه تهماً كثيرة. واستمرت محاولات المعوّقين حتى بعد وفاة الشيخ شلتوت، فاتصلوا بمن خلَفه على الازهر محاولين إصدار فتوى تنقض فتوى شلتوت، وكان ممن اتُصل به: الدكتور الشيخ الفحّام شيخ الازهر اللاحق، لكنه رفض طلبهم، قائلا: "إن فتوى الشيخ محمود هي فتواي، وهو أستاذي".

الشيخ حسن البنا ودار التقريب

كان الشيخ البنّا مهتماً بمسألة التقريب بين مذاهب المسلمين انطلاقا من هدفه، وهو عودة الامة المسلمة الى مكانتها على الساحة التاريخية، وروحه التقريبية هذه سرت الى كثير من مسؤولي جماعة "الاخوان المسلمين" التي أسسها. وآثاره لاتزال حتى اليوم موجودة بين جماعات الاخوان المسلمين. فهي -ما خلا بعض الاستثناءات- جماعة ترفض التعصب الطائفي وتقيم علاقاتها على أساس الاسلام وحده لا المذهب، ولا تعير أهمية للخلافات المذهبية.

والشيخ البنا هو الذي سمّى الدار بهذا الاسم، وكان من أوائل جماعة التقريب، ومن المهتمين بدفع مسيرة الدار. فقد كان الحديث في الايام الاولى لتشكيل الجماعة يدور عن اسم للمؤسسة التي يهم الشيخ القمي بانشائها، هل تحمل اسم الوحدة، أو التعارف، أو التعاضد أو….؟ غير أن الشيخ حسن البنا اقترح اسم التقريب لأنه أقرب الى التعبير عن أهداف الجماعة. وحملت الجماعة والدار اسم التقريب.

صحيفة البنّا تتبنى التقريب

كان الشيخ البنّا مهتماً أن يُنشر في صحيفته ما يقرّب بين أهل السنّة والشيعة، وكان يتعاون مع دار التقريب في إيصال صوتها الى الحجاز التي حظرت هذا الصوت آنذاك. يقول الشيخ القمّي في هذا المجال: بعد حادثة إعدام السيد أبو طالب اليزدي في الحجاز -كما مرّ ذكرها- انقطع سفر الايرانيين الى الحج لسنوات، ثم عاد حج الايرانيين، وعمدت دار التقريب الى نشر كتيّبات مناسك الحج على المذاهب الخمسة أي مذاهب أهل السنة الاربعة ومذهب الشيعة الامامية، من أجل إزالة ما علق في الاذهان تجاه الشيعة إثر التشويش الذي حدث بعد إعدام السيد الايراني وخلال سنوات انقطاع الايرانيين عن الحج. ومن الواضح أن هذه الكتيبات سَتُبَيِّن بما لا يقبل الشك أنّ السنة والشيعة متفقان في معظم المناسك إن لم يكن كلها. لكن لم يكن بالإمكان إدخال هذه الكتيّبات الى الحجاز لتوزيعها في موسم الحج، لأن التعليمات هناك لم تسمح بذلك في ذلك الوقت. أما الشيخ حسن البنا فقد وجد الطريق الى إدخالها، فطبع كل هذه المناسك في صحيفته، وأدخلها في موسم الحج الى الحجاز، ووزّعت بين الحجاج وكان لها أبلغ الأثر بين المسلمين. وفي تلك السنة حجّ الشيخ حسن البنا، والتقى في أيام الحج بآية اللّه الكاشاني؛ الزعيم الديني لحركة تأميم النفط في ايران.

حَظْر عمل الدار بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران

عندما قامت الثورة الاسلامية في ايران توقف نشاط الجماعة و توقفت مجلة "رسالة الاسلام" التي كانت تصدرها الجماعة.

الشيخ محمّد الغزالي

والغريب أن الازهر الذي كان متحالفاً مع دعوة التقريب و متعاطفاً مع الشيعة، انقلب فجأة عليهم بعد قيام الثورة سيراً مع سياسة الحكومة المعادية لإيران.

كما أن سعي مجموعةٍ كبيرة من الفقهاء المدعومين من السلطة السعوديّة أسهم بدورٍ كبير في القضاء على جماعة التقريب في مصر، أكثر من إسهام الحكومة المصريّة ذاتها. فهؤلاء الفقهاء كانوا يتحركون من منظور جذّاب وهو منظور العقيدة والحفاظ عليها من المد الشيعي. اما الحكومة فكانت تتحرك من منظور أمني بحت.

وعلى الرغم من هذا الحصار الأمني والفكري الذي طوّق الواقع الاسلامي بمصر بعد قيام الثورة الاسلامية، وإندلاع الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية في إيران، كانت لا تزال هناك أصوات تنادي بالتقريب وتحاول انصاف الشيعة من العلماء والدعاة. وفي مقدمة هولاء الشيخ محمد الغزالي الذي كان يقول: نعم أنا كنت من المعنيين بالتقريب بين المذاهب الاسلامية وكان لي عمل دؤوب ومتصل في دار التقريب في القاهرة و صادقت الشيخ محمد تقي القمي كما صادقت الشيخ محمد جواد مغنية ولي اصدقاء من العلماء والأكابر من علماء الشيعة. و أنا أريد فعلا ان نذهب الجفوة أو الشقاق المر الذي شاع بين المسلمين خصوصا في أيام اضمحلالهم الفعلي. [٥]

الحاجة زينب الغزالي

كما أن الاستاذة الداعية السيدة زينب الغزالي أجابت حين سئلت عن رأيها في مشكلة التفريق بين المذاهب الاسلامية قائلة: فلا شك ان هذه مؤامرة صهيونية انني أرى ان الشيعة الجعفرية و الزيدية مذاهب اسلامية مثل المذاهب الاربعة لدى السنة و على عقلاء السنة و الشيعة و على قيادات السنة و الشيعة ان يجتمعوا في صعيد واحد و ان يتفاهموا و ان يتعاونوا على ربط المذاهب الاربعة و المذهب الشيعى بعضها ببعض و كذلك مذهب الظاهرية لابن حزم و ادعو الى اجتماع علماء الاسلام من كل المذاهب للتصدي لتلك المؤامرة الصهيونية. ولي أنا شخصيا تجربة في هذه المسألة فقبل عام 1952كان هناك جماعة التقريب بين المذاهب و التي كان يشرف عليها الشيخ محمود شلتوت و الشيخ القمي و قد شاركت في عمل هذه الجماعة و بمباركة الامام حسن البنا الذي كان يري ان المسلمين سنة و شيعة أمة واحدة و ان الخلاف المذهبي لا يفرق وحدة الامة. و كان الاخوان المسلمون متعاونين مع هذه الجماعة على أساس ان الاسلام يد واحدة، إله واحد، كتاب واحد، رسول واحد، حلال واحد، حرام واحد، نظام سياسي واحد، اقتصاد واحد، نظام اجتماعي واحد، دولة واحدة، من أجل تطهير العالم من الظلم والزور والخديعة التي تمارسها القوتان الكبريان ويجب أن يكون الشيعة والسنة على قلب واحد.[٦]

الدار اليوم

قررت مشيخة الأزهر إعادة فتح دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بعد توقف نشاطها منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، فيما تم اختيار الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر السابق، رئيسًا لهذه الدار عن الجانب السني والشيخ عبد الله القمي، وهو عن الجانب الشيعي سكرتيرًا عامًا لها، وتقرر أن تضم أعضاء من كافة أنحاء العالم الإسلامي.

وقال الشيخ عاشور لـ صحيفة "الشرق الأوسط": "إن هذه الدار مهمتها رأب الصدع والتقريب بين أبناء الملة الواحدة لأن الخلاف بين السنة والشيعة فقهي، وإن هذه الخلافات لا تعكر صفو العلاقات ونحن نختلف في بعض الأمور ولكن ليس في الثوابت. نحن معاً نؤمن بالله الواحد وبالقرآن وبالقبلة وبالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤكدًا أن الحوار بين السنة والشيعة أمر لا يحتمل التأجيل، وأشار إلى أنه: "إذا كنا نؤمن بأنّ الحوار الإسلامي ـ المسيحي ضرورة فلماذا نتوقف عن الحوار مع إخوتنا الشيعة"؟

وأوضح:أنّ الأزهر أجاز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول المعروفة المصادر المتبعة لسبيل المؤمنين؛ ومنها مذهب الشيعة الإمامية ( الاثني عشرية) كما يتم تدريس فقه الشيعة الإمامية للدارسين بالأزهر.[٧]

ذات صلة

الهوامش

  1. راجع: http://www.qatarconferences.org/mazaheb/newsdetail.php?id=4
  2. راجع: http://aafaqcenter.com/index.php/post/1828
  3. http://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=738
  4. راجع: http://www.al-shia.org/html/ara/others/?mod=majalat&id=12
  5. الورداني، صالح، الشيعة في مصر من الإمام علي حتّى الإمام الخميني، ج1، ص156، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993م.
  6. الورداني، صالح، الشيعة في مصر من الإمام علي حتّي الإمام الخميني، ج1، ص157، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993م.
  7. http://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=9896&article=392788

المصادر والمراجع