مناظرة الإمام الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي
من المناظرات التي كانت في مجلس المأمون: مناظرته الإمام الرضا مع سليمان المروزي متكلم خراسان.
وقد كان المأمون يجلب على الإمام من متكلمي الفرق والأهواء المضلة كل من سمع به؛ حرصاً على انقطاع الإمام عن الحجّة مع واحد منهم، وذلك حسداً منه له، ولمنزلته من العلم، فكان لا يكلمه أحد إلاّ أقر له بالفضل والتزم الحجّة له عليه؛ لأن الله (تعالى ذكره) يأبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره وينصر حجته، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه.
سند الرواية
قال الشيخ الصدوق : حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه (رضي الله عنه) قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقه القمي، قال: حدثنا أبو عمرو محمد بن عمرو بن عبد العزيز الأنصاري الكجي، قال: حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي.[١]
قصّة المناظرة
يقول: قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله. ثم قال له: إنّ ابن عمي علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قدم عليَّ من الحجاز وهو يحبُّ الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، إني أكره إن أسأل مثله في مجلسك في جماعه من بني هاشم فينتقض عند القوم إذا كلمني، ولا يجوز الاستقصاء عليه.
قال [[المامون العباسي|المأمون] إنّما وجّهت إليه لمعرفتي بقوّتك، وليس مرادي إلاّ أن تقطعه عن حجةٍ واحدةٍ فقط.
فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه وخلّني والذم.
فوجّه [[المامون العباسي|المأمون] إلى الرضا فقال: إنه قدم إلينا من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فإن خفَّ عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلتَ.
فنهض للوضوء، وقال لنا: تقدموني... .
فدخل الرضا فقال: في أي شيء كنتم؟
قال عمران : يا ابن رسول الله، هذا سليمان المروزي.
فقال له سليمان : أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟
فقال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة احتج بها على نظرائي من أهل النظر .
قال المأمون ؟ يا أبا الحسن، ما تقول فيما تشاجرا فيه؟
نصّ المناظرة
البداء
قال: وما أنكرت من البداء يا سليمان واللهُ (عز وجل) يقول: ﴿ أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾.[٢]
ويقول (عز وجل) : ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾.[٣]
ويقول: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾.[٤]
ويقول (عز وجل): ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾.[٥]
ويقول: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾.[٦]
ويقول (عز وجل): ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾.[٧]
ويقول (عز وجل):﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ﴾.[٨]
قال سليمان : هل رويت فيه من آبائك شيئا؟
الإرادة الإلهية
قال: نعم، رويت عن أبي، عن أبي عبد الله أنه قال: "إنّ لله (عز وجل) علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاّ هو من ذلك يكون البداء، وعلماً علّمه ملائكته و رسله، فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه".
قال سليمان أحبّ أن تنزعه لي من كتاب الله (عز وجل).
قال: قول الله (عز وجل) لنبيه: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾[٩] أراد هلاكهم، ثم بدا لله تعالى فقال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.[١٠]
قال سليمان : زدني جُعلت فداك.
قال الرضا : لقد أخبرني أبي، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله قال: "إنّ الله (عز وجل) أوحى إلى نبي من أنبيائه : أن أخبر فلاناً الملك أنّي متوفيه إلى كذا وكذا. فأتاه ذلك النبي فأخبره، فدعا إلى الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال: يا رب، أجّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري. فأوحى الله (عز وجل) إلى ذلك النبي: أن ائت فلاناً الملك فاعلم أني قد أنسيتُ في أجله وزدت في عمره إلى خمس عشرة سنة. فقال ذلك النبي : يا رب، إنك لتعلم أني لم أكذب قط. فأوحى الله (عز وجل) إليه: إنما أنت عبد مأمور، فأبلغه ذلك، واللهُ لا يُسئل عمّا يفعل.
ثم التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب!!
قال: أعوذ بالله من ذلك. وما قالت اليهود؟
قال: قالت اليهود: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [١١] « يعنون: أنّ الله تعالى قد فرغ من الأمر فليس يُحدث شيئاً فقال الله (عز وجل): ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾.
ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عن البداء فقال: "وما ينكر الناس من البداء وأن يقف الله قوماً يُرجيهم لأمره".
قال سليمان: ألا تخبرني عن ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ في أي شيء أنزلت؟
قال: يا سليمان، ليلة القدر يقدّر الله (عز وجل) فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم.
قال سليمان: الآن قد فهمت ـ جعلت فداك ـ فزدني.
قال: يا سليمان، إنّ من الأمور أموراً موقوفه عند الله (عز وجل) يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، يا سليمان إن علياً كان يقول: "العلم علمان، فعلم علمه الله ملائكته ورسله، فما علّمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يُكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه يقدم منه ما يشاءً ويؤخّر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء".
قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين، لا أنكر بعد يومى هذا البداء ولا أكذّب به إن شاء الله.
فقال المأمون: يا سليمان سل أبا الحسن عمّا بدا لك، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف.
قال سليمان : يا سيدي أسألك؟
قال الرضا : سل عما بدا لك.
قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسماً وصفه مثل: حي، وسميع، وبصير، وقدير؟
قال الرضا : إنما قلتم: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير فهذا دليل على أنهما ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير .
قال سليمان: فإنه لم يزل مريداً.
قال : يا سليمان، فإرادته غيره؟
قال: نعم .
قال : فقد أثبت معه شيئا غيره لم يزل.
قال سليمان : ما أثبت.
قال الرضا : أهي محدثة؟
قال سليمان : لا، لا، ما هي محدثة.
فصاح به المأمون! وقال: يا سليمان : مثله يُعايا أو يكابر! عليك بالإنصاف، أما ترى مَن حولك من أهل النظر؟!
ثم قال: كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان.
فأعاد عليه المسألة، فقال: هي محدثة يا سليمان فإن الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً.
قالسليمان: إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه؟
قال الرضا : فأراد نفسه.
قال: لا .
قال : فليس المريد مثل السميع والبصير.
قال سليمان: إنما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا : ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً وأراد أن يكون حياً أو سميعاً بصيراً أو قديراً؟
قال: نعم .
قال الرضا : أ فبإرادته كان ذلك؟
قال سليمان : نعم .
قال الرضا : فليس لقولك "أراد يكون حياً سميعاً بصيراً" معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته.
قال سليمان: بلى، قد كان ذلك بإرادته.
فضحك المأمون ومَن حوله، وضحك الرضا ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان.
يا سليمان، فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف الله (عز وجل) به.
فانقطع.
تكلم مع الناس بما تفقهه
ثم قال الرضا : يا سليمان، أسألك عن مسأله؟
قال: سل جُعلت فداك.
قال : أخبرني عنك وعن أصحابك، تُكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أو بما لا تفقهون ولا تعرفون؟
قال: بل بما نفقه ونعلم.
قال الرضا : فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة وأن المريد قبل الإرادة، وأن الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم "أن الإرادة والمريد شيء واحد".
قال: جُعلت فداك، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون.
قال الرضا : فأراكم ادّعيتم علم ذلك بلا معرفة وقلتم "الإرادة كالسمع والبصر" إذا كان ذلك عندكم على ما لا يُعرف ولا يُعقل.
فلم يحر جواباً.
علم الله تعالى
ثم قال الرضا : يا سليمان، هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟
قال سليمان: نعم.
قال : أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك؟
قال: نعم.
قال : فإذاً حتى لا يبقى منه شيء إلا كان، أيزيدهم أو يطويه عنهم؟
قال سليمان: بل يزيدهم.
قال : فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون!
قال: جُعلت فداك، فالمريد لا غاية له.
قال : فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون تعالى الله (عز وجل) عن ذلك علوا كبيراً .
قال سليمان: إنما قلت "لا يعلمه" لأنه لا غاية لهذا؛ لأن الله (عز وجل) وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.
قال الرضا : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم؛ لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم، ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله (عز وجل) في كتابه: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾.[١٢]
وقال لأهل الجنة: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.[١٣]
وقال (عز وجل):﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾.[١٤]
فهو (عز وجل) يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة. أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا ليس يخلف مكانه؟
قال: بلى.
قال: أ فيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟
قال سليمان: لا .
قال : فكذلك كلما يكون فيها إذا اخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم .
قال سليمان: بلى يقطعه عنهم ولا يزيدهم.
قال الرضا : إذا يبيد فيها وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب، لأن الله (عز وجل) يقول: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾.[١٥]
ويقول (عز وجل): ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.[١٦]
ويقول (عز وجل) : ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾.[١٧]
ويقول (عز وجل) : ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾.[١٨]
ويقول (عز وجل) :﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾.[١٩]
فلم يحر جوابا.
هل الإرادة فعل الله تعالى ؟
ثم قال الرضا : يا سليمان، ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل؟
قال: بلى هي فعل.
قال : فهي محدثه؛ لأن الفعل كله محدث.
قال: ليست بفعل.
قال : فمعه غيره لم يزل.
قال سليمان : الإرادة هي الإنشاء.
قال : يا سليمان هذا الذي عِبْتُمُوهُ (ادّعيتموه) على ضرار وأصحابه من قولهم: "إنّ كل ما خلق الله (عز وجل) في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة |إرادةُ الله (عز وجل)، وإن إرادة الله تحيى وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح (وتلد) وتلتذ وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك فتبرأ منها وتعاديها (ويُعادى بها)، وهذا حدها".
قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا : قد رجعت إلى هذا ثانية! فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع؟
قال سليمان: لا.
قال الرضا : فكيف نفيتموه؟! قلتم: لم يرد ومره قلتم: أراد! وليست بمفعول له.
قال سليمان: إنما ذلك كقولنا: مره علم ومره لم يعلم.
قال الرضا : ليس ذلك سواء؛ لأن نفى المعلوم ليس بنفي العلم، ونفى المراد نفى الإرادة أن تكون؛ لأن الشيء إذا لم يُرَدْ لم تكن إرادة، فقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم بمنزله البصر، فقد يكون الإنسان بصيراً وإن لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم.
قال سليمان: إنها مصنوعة.
قال: فهي محدثة ليست كالسمع والبصر؛ لأن السمع والبصر ليسا بمصنوعين، وهذه مصنوعة.
قال سليمان: إنها صفة من صفاته لم تزل.
قال : فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل؛ لأن صفته لم تزل.
قال سليمان: لا لأنه لم يفعلها.
قال الرضا : يا خراساني ما أكثر غلطك! أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء؟
قال سليمان: لا.
قال: فإذا لم تكن بإرادته ولا مشيئته ولا أمره ولا بالمباشرة، فكيف يكون ذلك؟ تعالى الله عن ذلك.
فلم يحر جواباً.
معنى الإرادة
ثم قال الرضا : ألا أتخبرني عن قول الله (عز وجل): {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}}[٢٠] يعنى بذلك أنه يحدث إرادة.
قال له : نعم.
قال : فإذا حدث إرادة كان قولك: "إن الإرادة هي هو أو شيء منه" باطلاً ؛ لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ولا يتغير عن حاله، تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة.
قال : فما عنى به؟
قال: عنى فعل الشيء.
قال الرضا : ويلك! كم تردد في هذه المسألة! وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة؛ لأن فعل الشيء محدث.
قال: فليس لها معنى.
قال الرضا : قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها |بالإرادة بما لا معنى له، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم: "إن الله (عز وجل) لم يزل مريداً".
قال سليمان: إنّما عنيت أنها فعل من الله تعالى لم يزل.
قال : ألم تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً وقديماً وحديثاً في حالة واحدة؟
فلم يحر جواباً .
قال الرضا : لا بأس، أتمم مسألتك.
قال سليمان: قلت: إن الإرادة صفة من صفاته.
قال : كم تردد أنها صفة من صفاته! فصفته محدثه أو لم تزل؟
قال سليمان: محدثة.
قال الرضا : الله أكبر! فالإرادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته، لم تزل.
فلم يرد شيئاً.
قال الرضا : إن ما لم يزل لا يكون مفعولاً.
قال سليمان: ليس الأشياء أراده ولم يُرد شيئاً.
قال الرضا : وَسْوَسْتَ يا سليمان، فقد فَعل وخَلق ما لم يَزل خلقه وفعله، وهذه صفة من لا يدرى ما فعل! تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: يا سيدي، فقد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم.
قال المأمون: ويلك يا سليمان! كم هذا الغلط والترداد! اقطع وخُذ في غيره؛ إذ لست تقوى على غير هذا الرد.
قال الرضا : دعه ـ يا أمير المؤمنين ـ لا تقطع عليه مسألتة فيجعلها حجّة . تكلم يا سليمان.
قال: قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا : لا بأس، أخبرني عن معنى هذه، أمعنىً واحد أم معانٍ مختلفه؟
قال سليمان: معنى واحد.
قال الرضا : فمعنى الإرادات كلها معنى واحد؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا : فإن كان معناها معنىً واحداً كانت إرادة القيام إرادة القعود و إرادة الحياة إرادة الموت، إذا كانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضاً ولم يخالف بعضها بعضاً، وكانت شيئاً واحداً.
قال سليمان: إن معناها مختلف.
قال : فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها؟
قال سليمان بل هو الإرادة.
قال الرضا : فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة.
قال: يا سيدي، ليس الإرادة المريد.
قال: فالإرادة محدثة وإلاّ فمعه غيره. افهم وزد في مسألتك.
قال سليمان: فإنها اسم من أسمائه.
قال الرضا : هل سمّى نفسه بذلك؟
قال سليمان: لا، لم يسم نفسه بذلك.
قال الرضا : فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه.
قال: قد وصف نفسه بأنه مريد.
قال الرضا : ليس صفته نفسه أنه مريد إخبار عن أنه إرادة، ولا إخبار عن أن الإرادة اسم من أسمائه.
قال سليمان: لأن إرادته علمه.
قال الرضا : يا جاهل! فإذا علم الشيء فقد أراده.
قال سليمان: أجل.
فقال : فإذا لم يرده لم يعلمه!
قال سليمان: أجل.
الدليل على أن الإرادة علم أو ليست علماً
قال: من أين قلت ذاك؟! وما الدليل على أن إرادته علمه؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً وذلك قوله (عز وجل): ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾[٢١] فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبداً.
قال سليمان: لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً.
قال الرضا : هذا قول اليهود، فكيف قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾![٢٢]
قال سليمان: إنما عنى بذلك أنه قادر عليه.
قال : أ فيعيد ما لا يفي به؟! فكيف قال: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾.[٢٣]
وقال (عز وجل): ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[٢٤]؟! وقد فرغ من الأم.
فلم يحر جواباً.
قال الرضا : يا سليمان، هل يعلم أن إنساناً يكون ولا يريد أن يخلق إنساناً أبداً، وأن إنساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا : فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون.
قال: يعلم أنهما يكونان جميعاً.
قال الرضا : إذاً يعلم أن إنساناً حي ميت قائمٌ قاعدٌ عميٌّ بصيرٌ في حاله واحدة، وهذا هو المحال.
قال: جعلت فداك، فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر.
قال : لا بأس. فأيهما يكون الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون؟
قال سليمان: الذي أراد أن يكون.
فضحك الرضا و المأمون وأصحاب المقالات.
قال الرضا : غَلَطْتَّ وتركت قولك "إنه يعلم أن أنساناً يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم، وأنه يخلق خلقاً وأنه لا يريد أن يخلقهم"، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.
قال سليمان: فإنما قولي "إن الإرادة ليست هو ولا غيره.
قال الرضا : يا جاهل! إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره، وإذا قلت: ليست هي غيره فقد جعلتها هو.
قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشيء؟
قال : نعم.
قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشيء.
قال الرضا : أحل، لأن الرجل قد يحسن البناء، وإن لم يبن ويحسن الخياطة وإن لم يخط ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه ابداً.
الله تعالى واحد لا شيء معه
ثم قال له: يا سليمان، هل تعلم أنه واحد لا شيء معه؟
قال: نعم.
قال الرضا : فيكون ذلك إثباتاً للشيء.
قال سليمان: ليس يعلم أنه واحد لا شيء معه.
قال الرضا : أفتعلم أنت ذاك؟
قال: نعم.
قال : فأنت ـ يا سليمان ـ إذاً أعلم منه!
قال سليمان: المسألة محال.
قال : محال عندك أنه واحد لا شيء معه وأنه سميع بصير حكيم قادر.
قال: نعم.
قال : فكيف أخبر (عز وجل) أنّه واحد حي سميع بصير حكيم قادر عليم خبير، وهو لا يعلم ذلك، وهذا رد ما قالَ وتكذيبه، تعالى الله عن ذلك.
ثم قال له الرضا : فكيف يريد صنع ما لا يدرى صنعه ولا ما هو؟ وإذا كان الصانع لا يدرى كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنما هو متحير، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قال سليمان: فإنّ الإرادة هي القدرة.
قال الرضا : وهو (عز وجل) يقدر على ما لا يريده أبداً، ولا بد من ذلك؛ لأنه قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾[٢٥]، فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته!!
فانقطع سليمان.
فقال المأمون عند ذلك: يا سليمان، هذا أعلم هاشمي.
الهوامش
- ↑ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2 باب 13 ص 159 ح 1؛ الصدوق، التوحيد، ص 441 باب 66 ح 1.
- ↑ مريم: 67.
- ↑ الروم: 27.
- ↑ البقرة: 117.
- ↑ فاطر: 1.
- ↑ السجدة: 7.
- ↑ التوبة: 106.
- ↑ فاطر: 11.
- ↑ سورة الذاريات، الآية 54
- ↑ الذاريات: 55.
- ↑ سورة المائدة، الآية 64
- ↑ سورة النساء، الآية 56.
- ↑ سورة هود، الآية 108.
- ↑ سورة الواقعة، الآيتان 32 ـ 33.
- ↑ سورة ق، الآية 35
- ↑ سورة هود، الآية 108.
- ↑ سورة الحجر، الآية 48.
- ↑ سورة النساء، الآية 57.
- ↑ سورة الواقعة، الآيتان 32 ـ 33.
- ↑ سورة الإسراء، الآية 16
- ↑ سورة الإسراء، الآية 16.
- ↑ سورة غافر، الآية 60.
- ↑ سورة فاطر، الآية 1.
- ↑ سورة الرعد، الآية 39
- ↑ سورة الإسراء، الآية 86
- ↑ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2 باب 13 ص 159 ـ 169 ح 1.
- ↑ الصدوق، التوحيد، باب 66 ص 441 ـ 454 ح 1.
- ↑ الطبرسي، الاحتجاج، ج 2 ص 178 ـ 184.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا (ع)، بيروت، منشورات موسسة الأعلمي للمطبوعات، 1404 هـ/ 1984 م.
- الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج، تعليق: السيد محمد باقر الخرسان، النجف الأشرف، مطابع النعمان، 1386 هـ/ 1966 م.