القياس (فقه)
القياس، هو أحد مصطلحات علم الأصول ويقصد به استخراج حكم شرعي لم يرد فيه نص من آية أو رواية من حكم أخر ورد فيه نص، وذلك لتساويهما في علّة الحكم، وللقياس الفقهي أربع أركان هي: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم.
اختلف الفقهاء في شأن العمل بالقياس، فقد ذهب جمهور أهل السنة إلى أنّه أصل من أصول التشريع ومصدر من مصادر الاستنباط. بينما ذهب الإمامية إلى جواز التعبد به عقلاً، ولكنه ممنوع في الشريعة، وذلك للنصوص الواردة من أهل البيت ، وينقسم القياس إلى: منصوص العلة ومستنبط العلة.
تعريفه
- لغةً: يستعمل في معنيين:
- التقدير: قاس الشيء يقيسه قيساً إذا قدّره على مثاله، والمقياس المقدار،[١] ومن ذلك يقال: قاس الثوب بالذرع إذا قدّره به.
- المساواة: يقال: فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساوى به.[٢]
- اصطلاحاً: قد عُرّف القياس بتعاريف مختلفة، ومن هذه التعاريف:
- حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما.[٣]
- مساواة فرع بأصل في علّة حكمه.[٤]
- إثبات حكم مثل المقيس عليه للمقيس.[٥]
- إثبات مثل حكم الأصل، في الفرع بعلّة جامعة بينهما.[٦]
- إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في علة الحكم.[٧]
أوضح التعاريف هو أن يقال: ”استنباط حكم واقعة لم يرد فيها نص من حكم واقعة ورد فيها نصّ، لتساويهما في علّة الحكم ومناطه وملاكه“.[٨]
أركانه
للقياس أربعة أركان وهي:
- الأصل: وهو المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعاً.
- الفرع : وهو المقيس، المطلوب إثبات الحكم له شرعاً.
- العلة: وهي الجهة المشتركة بين الأصل والفرع التي اقتضت ثبوت الحكم. وتسمى " جامعا ".
- الحكم: وهو نوع الحكم الذي ثبت للأصل ويراد إثباته للفرع.[٩]
فإذا قال الشارع ــ مثلاً ــ : حرّمت الخمر لاسكارها، فالخمر أصل، والحرمة حكمه، والاسكار علّتها، فإذا وجد الإسكار في النبيذ (وهو الفرع) فقد ثبتت الحرمة له بالقياس.[١٠]
إمكان التعبد به
اختلفت كلمة الفقهاء في شأن العمل بالقياس، وأهمّ المذاهب في ذلك مذهبان:
الأول: القياس أصل من أصول التشريع ومصدر لاستنباط الأحكام الشرعية ويجوز التعبد به عقلاً وشرعاً، وهو رأي جمهور أهل السنة.
الثاني: جواز التعبد به عقلاً، ولكنه ممنوع في الشريعة، وهو مذهب الإمامية.
قال السيد المرتضى: والذي نذهب إليه أنّ القياس محظور في الشريعة استعماله، لأنّ العبادة لم ترد به، وإن كان العقل مجوّزاً ورود العبادة باستعماله.[١١]
أقسامه
القياس ينقسم إلى قسمين:
- الأول، القياس المنصوص العلة: عبارة عمّا إذا نص الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه عُلِم أنّه علّة الحكم التي يدور الحكم مدارها، لا حكمتُه الّتي ربّما يتخلّف الحكم عنها.
- الثاني، القياس المستنبط العلة: عبارة عمّا إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره وجُهده.
ينقسم القياس المستنبط العلة إلى قسمين:
- تارة يصل الفقيه إلى حدّ القطع بأنّ ما استخرجه، علّة الحكم ومناطه.
- وأُخرى لا يصل إلّا إلى حدّ الظنّ بأنّه مناطه وعلّته.
القياس المنصوص العلة
إنّ العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنة لا بالقياس، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلّية عند التعليل، نسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلّة.
ورد عن الإمام الرضا أنَّه قال: «مَاءُ الْبِئْرِ وَاسِعٌ لَا يُفْسِدُهُ شَيْءٌ ــ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ ــ فَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ ــ وَ يَطِيبَ طَعْمُهُ لِأَنَّ لَهُ مَادَّةً».[١٢]
فإنّ قوله: «لَانّ له مادّة» تعليل لقوله: «لا يفسده شيء»، ليكون حجّة في غير ماء البئر، فيشمل التعليل بعمومه ماء البئر، وماء الحمام، والعيون، وحنفية الخزّان و غيرها، فلا ينجس الماء إذا كان له مادة قوية. وعندئذٍ يكون العمل بالملاك المنصوص في المقيس عملًا بظاهر السنة لا بالقياس،[١٣]فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع، بل موضوع الحكم هو العلّة، والفروع بأجمعها داخلة تحتها.[١٤]
قياس الأولوية
مفهوم الموافقة أو قياس الأولوية: وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم بالفرع أقوى وأوكد منه في الأصل،[١٥] ومثاله ما ورد في القرآن الكريم من النهي عن التأفف من الوالدين، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾[١٦]القاضي بتحريم ضربهما، وتوجيه الإهانة إليهما.[١٧]
تنقيح المناط أو إلغاء الخصوصيّة
وهو أن يضيف الشارع الحكم الى سببه فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الاضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم،[١٨] ومثّلوا له بقصة الاعرابي الذي قال للنبي: ”هلكت يا رسول الله! فقال له: ما صنعت؟ قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان؛ قال: اعتق رقبة“،[١٩] حيث استفادوا عدم الخصوصية في كونه أعرابياً، فألحقوا به جميع المكلفين.
تحقيق المناط
وقد قسّمه المقدسي إلى نوعين:
أولهما: أن تكون القاعدة الكليّة متفقاً عليها أو منصوصاً عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع،[٢٠] ومثّل له بالاجتهاد في القبلة وهو معلوم بالنص، والاجتهاد إنما يكون في تشخيص القبلة من بين الجهات، وكذلك تعيين الإمام، والعدل، ومقدار الكفايات في النفقات ونحوها.
ثانيهما: ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع ، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده، مثل قول النبي الأعظم في الهرة: إنّها ليست بنجس إنّها من الطوّافين عليكم والطوافات،[٢١] جعل الطوّاف علة، فيبين المجتهد باجتهاده وجود الطوّاف في الحشرات من الفأرة وغيرها ليلحقها بالهرّ في الطهارة، فهذا قياس جليّ قد أقرّ به جماعة ممن يُنكر القياس.[٢٢]
تخريج المناط
وهو أن ينص الشارع على حكم في محل، دون أن يتعرض لمناط أصلاً،[٢٣] كتحريمه الربا في البُر "القمح" فيُعمم إلى كل مكيل من طريق استنباط علته بدعوى استفادة أن العلة في التحريم هو كونه مكيلاً.[٢٤]
الاختلاف في حجّيته
ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي الأعظم لمواجهة الأحداث الجديدة، وكان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به، حيث لم يتوفر بأيديهم نصوص فيها.
يرى الشيخ السبحاني أن هذا كان العامل الرئيسي للجوء أهل السنة إلى القياس، وقد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول إلاّ سبعة عشر حديثاً. فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، فلم يكن له محيص إلاّ اللجوء إلى القياس والاستحسان.[٢٥]
أئمّة أهل البيت ولفيف من الصحابة والتابعين رفضوه وأكثروا من ذمّه، والشيعة تبعاً للنبي وأهل بيته أبطلوا العمل بالقياس، ووافقهم من الفقهاء داود بن خلف، إمام أهل الظاهر، وتبعه ابن حزم الأندلسي، فلم يُقيموا له وزناً، وأوّل من توسّع في القياس هو أبو حنيفة، وتبعه مالك، وابن حنبل.[٢٦]
أدلة القائلين به
- حديث الجارية الخثعمية قالت: يا رسول الله إنّ أبي أدركته فريضة الحج شيخاً، زمناً لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه، أكان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم، قال: «فدَيْن اللّه أحقّ بالقضاء».[٢٧]
- حديث ابن عباس: انّ امرأة جاءت إلى النبي فقالت: إنّ أُمي نذرت أن تحجّ فماتت قبل أن تحجّ، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجّي عنها، أرأيت لو كان على أُمّك دَيْن أكنت قاضية؟». قالت: نعم، فقال: «اقضوا للّه فإنّ اللّه أحقّ بالوفاء».[٢٨]
- حديث الحارث بن عمر بن أخي المغيرة بن شعبة، قال: حدثنا ناس من أصحاب معاذ عن معاذ قال: لما بعثه إلى اليمن، قال:كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله؛ قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؛ قال فضرب رسول الله صدره، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله.[٢٩]
أدلة بطلانه
عقد الحر العاملي في وسائل الشيعة باباً خاصاً، أسماه باب «عدم جواز القضاء والحكم بالمقاييس» ونقل فيه ما يربو على عشرين حديثاً في النهي عن العمل بالقياس منها:
- عن الإمام محمد الباقر عن أبيه أَنَّ علياً قال: مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلْقِيَاسِ لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي الْتِبَاسٍ- وَمَنْ دَانَ اللَّهَ بِالرَّأْيِ لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي ارْتِمَاسٍ.[٣٠]
- عن الإمام الصادق إِنَّ أَصْحَابَ الْمَقَايِيسِ طَلَبُوا الْعِلْمَ بِالْمَقَايِيسِ- فَلَمْ تَزِدْهُمُ الْمَقَايِيسُ مِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعْداً- وَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْمَقَايِيسِ.[٣١]
- عن أمير المؤمنين قال: قال رسول الله قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مَا آمَنَ بِي مَنْ فَسَّرَ بِرَأْيِهِ كَلَامِي- وَمَا عَرَفَنِي مَنْ شَبَّهَنِي بِخَلْقِي- وَمَا عَلَى دِينِي مَنِ اسْتَعْمَلَ الْقِيَاسَ فِي دِينِي.[٣٢]
- دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللَّه فَقَالَ لَهُ: يَا أبَا حَنِيفَةَ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقِيسُ- قَالَ نَعَمْ أَنَا أَقِيسُ- قَالَ لَا تَقِسْ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ- حِينَ قَالَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.[٣٣]
الهوامش
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 6، ص 187.
- ↑ أمير بادشاه، تیسیر التحریر، ج 3، ص 263.
- ↑ ابن جزي، تقريب الوصول، ص 185.
- ↑ الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 170.
- ↑ المرتضى، الذريعة، ج 2، ص 669؛ الطوسي، العدة، ج 2، ص 647.
- ↑ البصري، المعتمد، ج 2، ص 446.
- ↑ الغزالي، شفاء الغليل، ص 18.
- ↑ السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي، ص 206.
- ↑ المظفر، أصول الفقه، ج 3، ص 187 ــ 188.
- ↑ الحكيم، الفقه المقارن، ج 1، ص 346.
- ↑ المرتضى، الذريعة، ج 2، ص 675.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 172.
- ↑ السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي، ص 209.
- ↑ السبحاني، الوسيط في أصول الفقه، ج 2، ص 69.
- ↑ القمي، القوانين المحكمة، ج 2، ص 87.
- ↑ الإسراء: 23.
- ↑ الحكيم، الفقه المقارن، ج 1، ص 357.
- ↑ المقدسي، روضة الناظر، ج 3، ص 803.
- ↑ البخاري، صحيح البخاري، ج 7، ص 118.
- ↑ المقدسي، روضة الناظر، ج 3، ص 801.
- ↑ ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 6، ص 411.
- ↑ المقدسي، روضة الناظر، ج 3، ص 802.
- ↑ المقدسي، روضة الناظر، ج 3، ص 805.
- ↑ الحكيم، الفقه المقارن، ج 1، ص 356.
- ↑ السبحاني، الوسيط في أصول الفقه، ج 2، ص 73.
- ↑ السبحاني، الوسيط في أصول الفقه، ج 2، ص 75.
- ↑ الآمدي، الإحكام، ج 4، ص 294.
- ↑ السبحاني، الوسيط في أصول الفقه، ج 2، ص 76.
- ↑ الشوكاني، إرشاد الفحول، ج 2، ص 128.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 27، ص 41.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 27، ص 43.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 27، ص 45.
- ↑ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 27، ص 46.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- ابن جزي، محمد بن أحمد بن محمد، تقريب الوصول إلى علم الأصول، بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ.
- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت ـ لبنان، دار صادر، د.ت
- الآمدي، علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، د.م، دار الكتاب العربي، ط1، 1404هـ.
- البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، بيروت ـ لبنان، عالم الكتب، ط5، 1406هـ.
- البصري، محمد بن علي بن الطيب، المعتمد في أصول الفقه، بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ.
- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، قم ـ إيران، مؤسسه آل البيت، ط1، 1409هـ.
- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة في الفقه المقارن، طهران ـ إيران، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ط1، 1431هـ.
- السبحاني، جعفر، الوسيط في أصول الفقه، بيروت ـ لبنان، دار جواد الأئمة، ط1، 1432هـ.
- السبحاني، جعفر، مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه، قم ـ إيران، مؤسسة الإمام الصادق، ط1، 1427هـ.
- الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول، بيروت ـ لبنان، دار الكتاب العلمية، ط1، 1419هـ.
- الطوسي، محمد بن الحسن، عدة الأصول، قم ـ إيران، ستارة، ط1، 1417هـ.
- الغزالي، محمد بن محمد ، شفاء الغليل، بغداد ـ العراق، الارشاد، 1390هـ.
- المرتضى، علي بن الحسين، الذريعة في أصول الشريعة، طهران ـ إيران، د.ن، 1348هـ.
- المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، قم ـ إيران، مؤسسة النشر الإسلامي، ط6، 1431هـ.
- المقدسي، عبد الله بن أحمد، روضة الناظر وجنّة المناظر، الرياض ــ السعودية، مكتبة الرشد، ط4، 1416هـ.
- أمير بادشاه، محمد أمين، تيسير التحرير، بيروت ـ لبنان، دار الفكر، 1417هـ.