سد الذرائع
سَدُّ الذَرائع هو أحد أدلّة استنباط الحكم الشرعي لدى فقهاء السنّة، وخاصة فقهاء المالكية والحنبلية. وهو يعني المنع من المقدمات والوسائل التي تؤدي إلى فعل الحرام. وبناء عليه يحرم العمل المباح الذي يكون مقدمةً لفعل الحرام. ولإثبات حجيته تم الاستناد إلى القرآن، وروايات نبوية، وقول الصحابة، والعقل، وقد عارض الكثير من فقهاء الشيعة والسنّة اعتبار سد الذرائع مصدراً لاستنباط الحكم الشرعي.
وفقاً لبعض الأصوليين فإنّ مالك بن أنس، إمام المذهب المالكي، هو أول من جعل سد الذرائع من مصادر الاجتهاد. لكن القرافي، وهو فقيه مالكي من القرن السابع الهجري، يرى أن سد الذرائع ليس من ابتكار مالك بن أنس، ولا يختص بالمذهب المالكي، بل إنّ بعض أنواعه مقبول عند جميع المذاهب الفقهية السنّية. وبحسب السيد محمد تقي الحكيم فإنّ سدّ الذرائع تمت مناقشته في المصادر الأصولية الشيعية ضمن مسألة «مقدمة الواجب».
المفهوم
سد الذرائع يعني منع المقدمات والوسائل التي تؤدي إلى فعل الحرام،[١] ويعتمد عليه المذهبان المالكي والحنبلي باعتباره أحد مصادر استنباط الحكم الشرعي.[٢] وعلى أساسه، فإنّه يحرم عمل المباح إذا كان مقدمة لفعل الحرام،[٣] ويجب منعه.[٤] فمثلاً بيع العنب بحد ذاته جائز، ولكن يحرم بيعه لمن أراد أن يصنع به خمراً.[٥]
السدّ في اللغة بمعنى إغلاق الخلل،[٦] والذرائع جمع الذريعة،[٧] بمعنى الوسيلة والطريق للوصول إلى الشيء،[٨] وقد يعبّر عنه بالمقدّمة.[٩] أما في مصطلح الفقهاء فهو وسيلة أو طريق تؤدي إلى فعل الحرام.[١٠] ويعتقد بعض الفقهاء أنّ الذريعة بمعناها العام يطلق على كل وسيلة تؤدي إلى أحد الأحكام الخمسة بما في ذلك الحرام.[١١] فقد تجب الوسيلة فيما لو أدّت إلى فعل الواجب، كما قد تكون مباحاً أو مستحباً فيما لو أدّت إلى فعل المباح أو المستحب،[١٢] ويُستخدم لبيان هذا المعنى مصطلح «فتح الذرائع».[١٣]
المكانة
سدّ الذرائع هو أحد المصطلحات الأصولية لدى فقهاء أهل السنة،[١٤] وقد بحث بعض علماء الشيعة حدوده وحجّيّته خلال مناقشات أصول الفقه المقارن.[١٥] وبحسب السيد محمد تقي الحكيم وهو مؤلف كتاب الأصول العامة للفقه المقارن، فإنّ سد الذرائع تم بحثه في أصول الفقه الشيعي ضمن مسألة مقدمة الواجب.[١٦] فيُبحث في مقدمة الواجب أو مقدمة الحرام أنّه لو كان الشيء واجباً أو حراماً فهل المقدّمة لذلك الشيء أيضا واجب أو حرام؟[١٧]
وقد اعتبر بعض علماء أهل السنّة أنّ سدّ الذرائع هو نفس قاعدة حسم مادّة الفساد،[١٨] وهي من القواعد التي يعتمد عليها فقهاء الشيعة لاستنباط بعض الأحكام الشرعية.[١٩]
ويعتبر البعض أنّ مالك بن أنس إمام المذهب المالكي هو أول من جعل سد الذرائع ضمن أدلّة الاجتهاد،[٢٠] ولكن القرافي وهو من فقهاء المالكية في القرن السابع الهجري يرى أنّ سد الذرائع ليس من ابتكار مالك بن أنس، ولا يختص بالمذهب المالكي، بل إنّ بعض أنواعه مقبول عند جميع المذاهب السنّية.[٢١]
وقد قسّم ابن قيم الجوزي وهو فقيه حنبلي من القرن الثامن الهجري التكاليف الفقهية في الإسلام إلى أربعة أقسام[ملاحظة ١] وعدّ سد الذرائع واحداً منها، واعتبر ذلك دليلاً على أهمية سد الذرائع.[٢٢]
الاعتبار والحجية
يعدّ سدّ الذرائع دليلاً معتبرا عند فقهاء السنّة، وخاصة فقهاء المالكية والحنبلية،[٢٣] واستدلّوا لإثبات حجّيته واعتباره بالقرآن[ملاحظة ٢] والروايات النبوية وكلمات الصحابة،[٢٤] وكذلك بالدليل العقلي.[٢٥] على سبيل المثال يعتقد ابن قيم الجوزي أنّ الله إن حرّم شيئاً ولم يحرّم الوسائل والذرائع المؤدّية إليه لكان ذلك «نقضاً للتحريم وإغراءً للنفوس به»، في حين إنّ الحكمة الإلهية تأبى ذلك.[٢٦]
ويأتي في قبال هؤلاء فريق من الفقهاء والأصوليين من الشيعة والسنّة، حيث لم يقبلوا سدّ الذرائع باعتباره مصدراً لاستنباط الأحكام الشرعية.[٢٧] وبحسب السيد محمد تقي الحكيم فإنّ الأحكام الشرعية تتبع المصالح والمفاسد، بحيث لو كان لشيءٍ مفسدةٌ لحرّم الشارع ذلك الشيء، ولا يستلزم منه أن يكون لمقدمة ذلك الشيء أيضاً مفسدة.[٢٨] وقد ذهب محمد رضا المظفر، وهو فقيه شيعي ومؤلف كتاب أصول الفقه، إلى أنّ سد الذرائع هو من الظنون التي نهى الشارع عن العمل بها، ولا دليل على اعتباره وحجّيته.[٢٩]
تطبيقاته في الفقه
وفيما يلي بعض الأحكام الفقهية القائمة على سد الذرائع:
- ذهب بعض فقهاء المالكية -وبالاعتماد على سد الذرائع- في زواج المسلم بالكتابية الكافرة إلى أنّه لو ترتّب على هذا الزواج مفاسد -كالذهاب إلى الكنيس أو الكنيسة، أو أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمر، أو الخوف من الوقوع في مثل هذه الأمور- فيحرم عقد الزواج.[٣٠]
- يعتقد فقهاء المالكية والحنفية -وبالاستناد إلى سد الذرائع- أن ذهاب النساء إلى زيارة القبور حرام فيما لو ترتّب على ذلك مفسدة أو الخوف من الوقوع في الفتنة أو المفسدة.[٣١]
- يرى ابن قيم الجوزي -وبناء على سد الذرائع- حرمة عقد النكاح فيما لو كانت المرأة في العِدّة أو في إحرام الحج، لأن العقد في هذه الفقرة وسيلة وطريق للمقاربة المحرّمة.[٣٢]
- أفتى بعض فقهاء أهل السنّة -وبالاعتماد على سد الذرائع- بأنّ الخلوة بالأجنبية حرام، وذلك للمنع من تهييج الشهوة والوقوع في الفعل الحرام.[٣٣] ويجدر القول أنّ الشهيد الثاني وهو من فقهاء الشيعة في القرن العاشر الهجري استند إلى قاعدة حسم مادّة الفساد لتحريم الخلوة بالأجنبية،[٣٤] لكن السيد أبو القاسم الخوئي الفقيه المعاصر الشيعي ذهب إلى تحريم ذلك من باب مقدّمة الحرام.[٣٥]
الهوامش
- ↑ البحراني، المعجم الأصولي، ج2، ص177.
- ↑ ابن رشد، المقدمات الممهّدات، ج2، ص39؛ أبو زهرة، أصول الفقه، ص287؛ سبحاني، أصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه، ص224.
- ↑ ابن رشد، المقدمات الممهّدات، ج2، ص39؛ البرهاني، سد الذرايع في الشريعة الاسلامية، ص74.
- ↑ ابن عاشور، مقاصد الشريعة الاسلامية، ج2، ص306.
- ↑ ولايي، فرهنگ تشريحي اصطلاحات أصول، ص193.
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ذيل مادة «سدد».
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ذيل مادة «ذرع».
- ↑ ابن قيم الجوزي، إعلام الموقعين، ج3، ص135؛ ابن عاشور، مقاصد الشريعه الاسلامية، ج2، ص305.
- ↑ البحراني، المعجم الأصولي، ج2، ص177.
- ↑ ابن عاشور، مقاصد الشريعة الاسلامية، 1425ق، ج2، ص305.
- ↑ جمع من الکتّاب، فرهنگنامه أصول فقه، ص479؛ مكارم الشيرازي، أنوار الأصول، ج2، ص494.
- ↑ أبو زهرة، أصول الفقه، ص288.
- ↑ مكارم الشيرازي، أنوار الأصول، ج2، ص494.
- ↑ البحراني، المعجم الأصولي، ج2، ص177.
- ↑ على سبیل المثال انظر: الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ج2، ص55؛ سبحاني، أصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه، ج1، ص224.
- ↑ الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ج2، ص58.
- ↑ الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ج2، ص58.
- ↑ ابن عاشور، مقاصد الشريعة الاسلامية، 1425ق، ج2، ص305؛ القرافي، أنوار البروق في أنواع الفروق، ج2، ص32؛ البرهاني، سد الذرائع في الشريعة الاسلامية، ص81.
- ↑ على سبیل المثال انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ج1، ص301؛ الطباطبائي، رياض المسائل، ج13، ص527؛ توحيدي، مصباح الفقاهة، ج1، ص254؛ الخميني، المكاسب المحرمة، ج1، ص170.
- ↑ جمع من الكتّاب، فرهنگنامه اصول فقه، 1389ش، ج1، ص489.
- ↑ القرافي، انوار البروق في انواء الفروق، ج2، ص32.
- ↑ ابن قيم الجوزي، اعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3، ص126.
- ↑ على سبیل المثال انظر: أبو زهرة، أصول الفقه، ص287؛ سبحاني، أصول الفقه المقارن فيما لا نص في، ص224.
- ↑ ابن قيم الجوزي، إعلام الموقعين، ج3، ص108.
- ↑ الحكيم، أصول العامة لفقه المقارن، ج2، ص60.
- ↑ ابن قيم الجوزي، إعلام الموقعين، ج3، ص109.
- ↑ ولايي، فرهنگ تشريحي اصطلاحات اصول، 1387ش، ص194.
- ↑ الحكيم، أصول العامة لفقه المقارن، ج2، ص60.
- ↑ المظفر، أصول الفقه، ج2، ص180.
- ↑ الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج4، ص73.
- ↑ الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج1، ص491.
- ↑ ابن قيم الجوزي، إعلام الموقعين، ج3، ص113.
- ↑ ابن قيم الجوزي، إعلام الموقعين، ج3، ص112.
- ↑ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ج12، ص72.
- ↑ توحيدي، مصباح الفقاهة، ج1، ص350.
الملاحظات
- ↑ قال ابن قيم الجوزي: والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهيّ عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سدّ الذرائع المُفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين
- ↑ ومن الآيات التي استدل بها الفقهاء لإثبات حجّية سد الذرائع هي الآية 108 من سورة الأنعام: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فالله تعالى حرّم سبّ الأصنام، لأنّ ذلك وسيلة ومقدّمة لسبّ الله. (ابن قيم الجوزي، إعلام الموقعين، ج3، ص110.)
المراجع والمصادر
- ابن عاشور، محمد طاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، قطر، وزارة اللوقاف والشؤون الإسلامية، 1425هـ.
- ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد، المقدمات الممهّدات، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1408هـ.
- ابن قيم الجوزي، شمس الدين، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1411هـ.
- ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1414هـ.
- أبو زهره، محمد، أصول الفقه، بيروت، دار الفكر العربي، د.ت.
- البحراني، محمد صنقور علي، المعجم الأصولي، قم، دار عترت للنشر، 1426هـ.
- البرهاني، محمد هشام، سد الذرايع في الشريعة الإسلامية، دمشق، دار الفكر، ط1، 1406هـ.
- توحيدي، محمد علي، مصباح الفقاهة: تقريرات درس الفقه لآية الله الخوئي، قم، منشورات إسماعيليان، 1417هـ.
- الجزيري، عبد الرحمن، الفقه علي المذاهب الاربعة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1424هـ.
- جمع من الکتّاب، فرهنگنامه أصول فقه، قم، معهد العلوم والثقافة لاإسلامية، 1389ش.
- الخميني، السيد روح الله، المكاسب المحرمة، قم، مؤسسه تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ط1، 1415هـ.
- السبحاني، جعفر، أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه، قم، مؤسسة الإمام الصادق(ع)، ط1، 1383ش.
- الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، قم، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1413هـ.
- الطباطبايي، السيد علي، رياض المسائل، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، 1422هـ.
- القرافي، أبو العباس، أنوار البروق في أنواع الفروق، د.م، عالم الكتب، د.ت.
- المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، قم، منشورات مكتب الإعلام الإسلامي، 1405هـ.
- مكارم الشيرازي، ناصر، أنوار الأصول، قم، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب(ع)، ط2، 1428هـ.
- ولايي، عيسى، فرهنگ تشريحي اصطلاحات أصول، طهران، دار ني للنشر، ط6، 1387ش.