أصحاب أرأيت

من ويكي شيعة

أصحاب أرأيت، هم فريق من الباحثين في الفقه والمشاركين في أوساط التابعين خلال النصف الثاني من القرن 1 هـ, وقد أُطلِق عليهم هذا العنوان، أو عنوان "الأرائيين" من قِبَل التيار السائد بسبب أسئلتهم الإفتراضية من شيوخهم وأساتذتهم بعبارة "أرأيت ...".

كان أصحاب أرأيتَ في الكوفة النواة الأولى لِمن سُمّوا لاحقاً بأصحاب الرأي (المقابلون لأصحاب الحديث)، وترسخت مكانتهم نظراً للظروف الاجتماعية على يد فقهاء من بلدان مختلفة عُرفوا بكثرة الفتاوى، كإبراهيم النخعي في الكوفة، والحسن البصري في البصرة، وفقهاء مكة من تلامذة ابن عباس، كعطاء ومجاهد و... بدافع من الرأي، بعد الكتاب والسنة وسيرة بعض الصحابة.

الجذور

تعود خلفية أصحاب الرأي بالمعنى المصطلح عليه في الأجيال المتقدمة، إلى أسلوب فقهاء مجهولين في عصر التابعين الذين كانوا قد مهّدوا للفقه توسيع نطاقه عبر افتراض مسائل مقدّرة. فإن تحول الفقه إلى "علم" ووضعه في طريق التوسيع والتعقيد، كان يستقي مادته الرئيسة من جهود هؤلاء الذين كانوا في البدء فريقاً مغلوباً على أمره وغير مرغوب به في أوساط التابعين.

الدوافع

لا يمكن القول بسهولة إن أصحاب أرأيت كانوا يرمون تحقيق نظام فقهي يتمتع بعلاقة منظمة بين المسائل وقدرة الرد على الأسئلة المحتملة، لكنهم من الناحية العملية كانوا بصدد تحقيق تلك القدرة. وكان وجود هذه المواصفات في تيار أصحاب أرأيت، والدافع إلى أساليب اجتهاد الرأي بالنظر إلى الإجابة السريعة على الاحتياج العام، يؤدي إلى أن تتغير الظروف الاجتماعية لمصلحة أصحاب أرأيت، وتترسخ مكانتهم في الأوساط والمجامع تدريجياَ.

وحكاية التوبيخ الواردة على لسان أبي وائل (المتوفي حوالي 83 هـ) التابعي الكوفي ومن أواخر الباقين من تلامذة ابن مسعود بحق أصحاب أرأيت، تدلّ على أن أساليب هذا الفريق كانت على عهده تحظى بقبول ورواج نسبيين، وأنها قادت أصحاب الحديث إلى اتخاذ موقف الدفاع.[١]

الكوفة

الشعبي

كانت شخصيتان في عصر الجيل الثاني للتابعين في الكوفة محور اهتمام الأوساط الفقهية، وقد لعبتا دوراً رئيساً في تبلور المدارس الفقهية فيها، وهما:

  1. عامر الشعبي؛ بوصفه أبرز علماء الكوفة ممن تعلم على أصحاب الإمام علي(ع).
  2. إبراهيم النخعي؛ بوصفه أبرز حاملي تراث أصحاب ابن مسعود.

وبرغم أن التصور العام في المصادر التقليدية يعتقد أن إبراهيم والشعبي كانا من أصحاب الأثر ومن المعارضين الأشداء لأصحاب أرأيتَ،[٢] لكن من خلال نظرة فاحصة ينبغي التسليم بأن أساليب الفقاهة وكذلك كيفية تعامل هذين الاثنين مع ظاهرة أرأيتَ لم تكن متساوية تماماً.

النخعي

كان لإبراهيم النخعي تعاملاً أكثر اعتدالاً تجاه التقدير الفقهي، وكان يرى الجمع بين الرأي والأثر نوعاً ما.[٣] فلا بدع أن يتخرج في مجلس درسه خَلَف كحماد بن أبي سليمان أبرز شخصيات أصحاب أرأيت.

وفي مقارنة بين أسلوبي إبراهيم والشعبي، عدّ معاصرُه ابن عون، الشعبي كثير التقوى في الإفتاء؛ وإبراهيم كثير القول والإفتاء،[٤] وهو الأسلوب الذي كان يقرّبه عملياً إلى حد ما من أصحاب الرأي.

مكة ومضاهاة الكوفة

تجدر الإشارة في نظرة متأنية إلى الأوضاع الثقافية في مكة خلال القرن 1 هـ، أن الاتجاه إلى رواية الحديث خلال تلك الحقبة كان أضيق بكثير مقارنة بالمدينة. أما من حيث الاتجاه إلى الرأي والتقدير ، فإن مكانة مكة كانت قابلة للمقارنة مع العراق بشكل أكبر. وقبل كل شيء، لا ينبغي إغفال الدور الرئيس لابن عباس في وضع أسس التعاليم المكية.

ابن عباس

كان ابن عباس من مروجي التعامل التفسيري والدرائي في الحجاز وأهم معلمي حلقة التابعين في مكة.

وفي المقارنة مع الروايات الكوفية حول اجتهاد الرأي وترتيب الأدلة الفقهية خلال العقود الأخيرة من القرن 1 هـ، أوصى عبيد الله بن أبي يزيد من التابعين في مكة[٥] بالعمل بالاجتهاد بالرأي من بعد الكتاب والسنة وسيرة بعض الصحابة، في رواية مشابهة لابن عباس.[٦] وفضلاً عن هذه الرواية، فإن الروايات المتوفرة تدل على أن أبرز فقهاء مكة من تلامذة ابن عباس في تلك الفترة، كانوا عملياً يتبعون هذا الأسلوب.

مجاهد وابن مهران

في المنتصف الثاني من القرن 1 هـ، ومع وجود علماء مثل عطاء بن أبي رواح ومجاهد، بلغت مكة في شتى مجالات العلوم الإسلامية درجة من التطور جعلتها تنافس بوصفها قطباً مهماً، المدينة في المجال الفقهي. وبرغم أن بعض خريجي مدرسة مكة من الجيل الثاني من التابعين مثل طاوس كان لهم موقف حذر تجاه ظاهرة أرأيتَ،[٧] لكن الاتجاه إليها كان شائعاً في أوساطهم عملياً. وفي ذلك الجيل فإن ميمون بن مهران الفقيه الذي تلقى تعليمه في مكة وسكن بلاد الجزيرة، كان يبحث عن وسيط ليحصل _ بحيلة ما _ على جواب ابن عباس لأسئلته التقديرية، عند تهربه من الجواب.[٨]

عطاء

إن عطاء بن أبي رباح وهو مفتي مكة الذي ورد في عبارات متناقلة نصوص عن امتناعه من الفتوى استناداً إلى الرأي،[٩] يُعد عملياً فقيهاً كثير الفتوى؛ حيث كان يصرح بأن شطراً من آرائه قائم على الأثر والآخر على اجتهاد الرأي.[١٠]

ولم يكن عطاء يأبى الإجابة على أسئلة تلامذته التقديرية، وفي نظرة عابرة نجد المصنف للصنعاني حافلاً بروايات عنه كان يجيب فيها على أسئلة تقديرية لتلميذه ابن جريج.[١١]

وقد أورد ابن سعد رواية ينبغي القول بموجبها إن عطاء في أسلوبه الفقهي تأثر بالفقه الكوفي، أو في الأقل كان يجلّ الفقه الدرائي في الكوفة كثيراً؛[١٢] بينما أن فقه أرأيتَ في المدينة، رغم الترحيب باستخدام المحدد للرأي خلال أوائل القرن 2 هـ من قِبل علماء متنفذين كابن شهاب الزهري،[١٣] لم يكن يتمتع بقاعدة راسخة.

البصرة ووجود اتجاهين

للحديث عن مكانة أرأيت في البصرة، علاقة تاريخية بالحجاز، ذلك أنه في الجيل الثاني من التابعين ومع توطيد العلاقة بين أوساط البصرة والحجاز، لاسيما بعد الاستفادة الواسعة من تعاليم ابن عباس، ارتسمت معالم الأوساط الفقهية في البصرة لتتخذ لنفسها ملامح جادة. وفي التعاليم الفقهية البصرية خلال تلك الفترة يلاحظ اتجاهان رئيسان يظهران جلياً من خلال تعارض زعيميهما الحسن البصري، وابن سيرين.

وينبغي تقييم مواقف كل واحد من هذين الجناحين بمقارنتها مع سُنة قرّاء البصرة السابقة، وكذلك من خلال انتسابهم إلى مدارس مكة والمدينة المتنوعة.

ابن سيرين

لم يكن ابن سيرين (110 هـ) يتبع في تعاليمه الأفكار المعقدة، وكان يرى الإنسان على النهج القويم مادام فعله قائماً على الآثار.[١٤]

الحسن البصري

للحسن البصري (110 هـ) الذي كان يحظى بتعليم حجازي - بصري، شخصية معقدة لعبت دوراً مؤثراً وتأسيسياً في شتى مجالات العلوم الإسلامية. وما تعلمه الحسن البصري في الحجاز وبشكل خاص في حلقة ابن عباس، كان قد حوّله إلى عالم اهتم بالتفسير والدراية قبل أن يصبح في عداد القراء، بل وحتى الرواة، خلافاً لزهاد البصرة المتقدمين.[١٥]

ولم يكن الإفراط في استخدام الرأي في مواقف الحسن، تحظى بالتأييد،[١٦] لكن الحسن _ خلافاً لأسلافه البصريين _ لم يكن يأبى الجلوس على كرسي التدريس والإفتاء بوصفه فقيهاً،[١٧] وكان عملياً أحد أشهر الفقهاء التابعين ممن عُرفوا بكثرة الفتاوى.[١٨]

أبحاث ذات صلة

الهوامش

  1. انظر: النسائي، السنن، ج 1، ص 665، 668؛ ابن بطة، الإبانة، ج 1، ص 451، ج 2، ص 516.
  2. انظر مثلاً: الدارمي، السنن، ج 1، ص 47، 52، 65، 67.
  3. انظر: أبو نعيم، حلية، ج 4، ص 225.
  4. انظر: أبو نعيم، حلية، ج 1، ص 52.
  5. انظر: ابن سعد، الطبقات الكبير، ج 5، ص 354.
  6. انظر: الدارمي، السنن، ج 1، ص 59؛ ابن أبي شيبة، المصنف، ج 7، ص 242.
  7. انظر مثلاً: الدارمي، السنن، ج 1، ص 56 - 57.
  8. الدارمي، السنن، ج 1، ص 56 - 57.
  9. انظر: الدارمي، ج 1، ص 47.
  10. ابن سعد، الطبقات الكبير، ج 5، ص 345؛ الصنعاني، المصنف، ج 2، ص 9 - 8، مواضع مختلفة.
  11. انظر مثلاً: الصنعاني، المصنف، ج 2، ص 49، 55.
  12. انظر: ابن سعد، الطبقات الكبير، ج 6، ص 5.
  13. انظر: الدارمي، السنن، ج 1، ص 93.
  14. انظر: ابن سعد، الطبقات الكبير، ج (1)/ 142؛ الدارمي، السنن، ج 1، ص 47، 54.
  15. انظر: الذهبي، سير ...، ج 4، ص 565.
  16. انظر: الصنعاني، المصنف، ج 2، ص 89.
  17. انظر أيضاً: ابن سعد، الطبقات الكبير، ج (1)/ 142.
  18. عن الروايات المعبرة عن رأيه، انظر: ابن سعد، الطبقات الكبير، ج 7 (1)، ص 120؛ الدارمي، ج 1، ص 58 - 59؛ لتحليل عن تعارض المدرستين، انظر: دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج 6، ص 273 - 275.

المصادر والمراجع

  • ابن أبي شيبة، عبد الله، المصنف، بومباي، 1400 هـ/ 1980 م
  • ابن بطة العكبري، عبيد الله، الإبانة عن شريعة الفرق الناجية، تحقيق: رضا بن نعسان معطي، الرياض، 1409 هـ/ 1988 م.
  • ابن سعد، محمد، كتاب الطبقات الكبير، تحقيق: زاخو وأخرون، ليدن، 1904 - 1915 م.
  • أبو نعيم الأصفهاني، أحمد، حلية الأولياء، القاهرة، 1351 هـ/ 1932 م.
  • الدارمي، عبد الله، سنن، دمشق، 1349 هـ.
  • الذهبي، محمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأنؤوط ومأمون الصاغرجي، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م.
  • الصنعاني، عبد الرزاق، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمان الأعظمي، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م.
  • النسائي، أحمد، سنن، القاهرة، 1348 هـ/ 1930 م.

المدخل مقتبس من مقالة لدائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج 8، تحت عنوان: أصحاب الرأي، القسم الأول، تحت عنوان: أصحاب أرأيت، ص 164 - 166، لأحمد باكتجي.