انتقل إلى المحتوى

الفرق بين المراجعتين لصفحة: «البيعة»

أُزيل ٢١٧ بايت ،  ٤ يناير ٢٠١٩
imported>Ahmadnazem
imported>Ahmadnazem
سطر ١: سطر ١:
'''البيعة''' تعني العهد على الطاعة؛ كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّ يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور [[المسلم|المسلمين]]، ولا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد. فأشبه ذلك فعل البايع والمشتري، فسمّي بيعة؛ وإن أوّل مبايعة حصلت في تاريخ الرسالة الإسلامية تمثلت بمبايعة كلٍّ من السيدة [[خديجة بنت خويلد|خديجة]] (س) والإمام [[أمير المؤمنين]] {{عليه السلام}} لل[[النبي الأكرم|نبي الأكرم]] {{صل}}، وذلك بعد الإيمان بالرسالة المحمدية. ثم تلَتْها بيعتا [[بيعة العقبة الأولى|العقبة الأولى]] و[[بيعة العقبة الثانية|الثانية]] في [[مكة]] المكرّمة، واللتان مهدتا– خاصة الثانية منها- الأرضية المناسبة لهجرة النبي {{صل}} إلى [[المدينة]] المنورة. ومن البيعات التي شهدها التاريخ الإسلامية مبايعة المسلمين ل[[الرسول الأكرم|لرسول الأكرم]] {{صل}} حينما توجّه من المدينة نحو منطقة بدر، ومنها [[بيعة الرضوان]] المعروفة ببيعة الشجرة في السنة الثامنة للهجرة في [[صلح الحديبية|الحديبية]]، ومبايعة الرجال والنساء للنبي الأكرم بعد فتح مكّة سنة ثمانية للهجرية أيضا.
'''البيعة''' تعني العهد على الطاعة؛ كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّ يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور [[المسلم|المسلمين]]، ولا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به، وإن أوّل مبايعة حصلت في تاريخ الرسالة الإسلامية تمثلت بمبايعة كلٍّ من السيدة [[خديجة بنت خويلد|خديجة]] (س) والإمام [[أمير المؤمنين]] {{عليه السلام}} لل[[النبي الأكرم|نبي الأكرم]] {{صل}}، وذلك بعد [[الإيمان]] ب<nowiki/>[[الإسلام|الرسالة المحمدية]]. ثم تلَتْها بيعتا [[بيعة العقبة الأولى|العقبة الأولى]] و[[بيعة العقبة الثانية|الثانية]] في [[مكة]] المكرّمة، واللتان مهدتا– خاصة الثانية منها- الأرضية المناسبة لهجرة النبي {{صل}} إلى [[المدينة]] المنورة. ومن البيعات التي شهدها التاريخ الإسلامية مبايعة المسلمين ل[[الرسول الأكرم|لرسول الأكرم]] {{صل}} حينما توجّه من المدينة نحو منطقة بدر، ومنها [[بيعة الرضوان]] المعروفة ببيعة الشجرة في السنة الثامنة للهجرة في [[صلح الحديبية|الحديبية]]، ومبايعة الرجال والنساء للنبي الأكرم بعد فتح مكّة سنة ثمانية للهجرية أيضا.
وقد شهد التاريخ أخر بيعة حصلت في حياة النبي {{صل}} المتمثلة ب[[واقعة الغدير|بيعة الغدير]] التي حصلت عند منصرف النبي {{صل}} في [[حجة الوداع]] حيث بايع المسلمون الإمام علياً {{عليه السلام}} كخليفة ووصي له {{صل}} على المسلمين.
وقد شهد التاريخ أخر بيعة حصلت في حياة النبي {{صل}} المتمثلة ب[[واقعة الغدير|بيعة الغدير]] التي حصلت عند منصرف النبي {{صل}} في [[حجة الوداع]] حيث بايع المسلمون الإمام علياً {{عليه السلام}} كخليفة ووصي له {{صل}} على المسلمين.
والجدير بالذكر أنّ ظاهرة البيعة كانت قبل [[البعثة]] وفي حياته {{صل}} وبقيت معمولا بها من قبل [[الخليفة|الخلفاء]] والحكّام الذين توالوا على السلطة وقيادة المسلمين على مرّ القرون السالفة.
والجدير بالذكر أنّ ظاهرة البيعة كانت قبل [[البعثة]] وفي حياته {{صل}} وبقيت معمولا بها من قبل [[الخليفة|الخلفاء]] والحكّام الذين توالوا على السلطة وقيادة المسلمين على مرّ القرون السالفة.
سطر ٤٧: سطر ٤٧:


==== البيعة في العصرين الأموي والعباسي ====
==== البيعة في العصرين الأموي والعباسي ====
استمرت ظاهرة البيعة في العصرين [[بنو أمية|الأموي]] و[[بنو العباس|العباسي]] مع إجراء بعض التغييرات في الشكل تارة والمضمون أخرى بل فيهما معا في بعض الأحيان. فقد أحدث الأمويون تحولا كبيراً وتغييراً جوهرياً في مضمون البيعة وشكلها، حتى أن الكثير من الكتّاب والمفكرين من أبناء [[أهل السنة|السنّة]] أذعنوا بأنّ [[معاوية]] قام ولتحكيم أسس حكومته وأخذ البيعة لولده [[يزيد بن معاوية|يزيد]] باعتماد شتّى الوسائل توزعت على الوعد والوعيد بالأطماع تارة والتهديد والقهر أخرى فضلا عن التحايل وإيقاع [[الفرقة بين المسلمين]] و.... <ref>عبدالمجيد، البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي، ص۶۰ـ۶۱ ذ</ref>
استمرت ظاهرة البيعة في العصرين [[بنو أمية|الأموي]] و[[بنو العباس|العباسي]] مع إجراء بعض التغييرات في الشكل تارة والمضمون أخرى بل فيهما معا في بعض الأحيان. فقد أحدث الأمويون تحولا كبيراً وتغييراً جوهرياً في مضمون البيعة وشكلها، حتى أن الكثير من الكتّاب والمفكرين من أبناء [[أهل السنة|السنّة]] أذعنوا بأنّ [[معاوية]] قام ولتحكيم أسس حكومته وأخذ البيعة لولده [[يزيد بن معاوية|يزيد]] باعتماد شتّى الوسائل توزعت على الوعد والوعيد بالأطماع تارة والتهديد والقهر أخرى فضلا عن التحايل وإيقاع الفرقة بين المسلمين و.... <ref>عبدالمجيد، البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي، ص۶۰ـ۶۱ ذ</ref>
ورويداً رويداً أخذت ماهية البيعة تتحول إلى عملية ممزوجة بالإكراه والتهديد وتتحول في واقع الأمر من المبايعة اختياراً إلى أخذ للبيعة بالإكراه. <ref>كتاني، نظام الحكومة النبّوية، كتاني، ج 1، ص 223. </ref> ومن نماذج ذلك ما كتبه [[يزيد]] إلى واليه على المدينة [[الوليد بن عتبة]]: أما بعد فخذ [[الإمام الحسين|حسينا]] و[[عبد الله بن عمر]] و[[عبد الله بن الزبير]] بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة. <ref>ابن جرير، تاريخ الطبري، ج 5، ص 338. </ref> وقد تحولت البيعة في ذلك العصر إلى حالة شكلية وتشريفية، وطريقة للإعلان عن الوفاء لأمر الحاكم الجديد. <ref>ابن جرير، تاريخ الطبري، ج 7، ص 311، 471، ج 6، ص 423. </ref> بل المبايعة للحاكم المرتقب بعد الحاكم الفعلي أو ما بات يعرف اليوم بولي العهد. <ref>المسعودي، مروج الذّهب، ج 4، ص 210-211. </ref>
ورويداً رويداً أخذت ماهية البيعة تتحول إلى عملية ممزوجة بالإكراه والتهديد وتتحول في واقع الأمر من المبايعة اختياراً إلى أخذ للبيعة بالإكراه. <ref>كتاني، نظام الحكومة النبّوية، كتاني، ج 1، ص 223. </ref> ومن نماذج ذلك ما كتبه [[يزيد]] إلى واليه على المدينة [[الوليد بن عتبة]]: أما بعد فخذ [[الإمام الحسين|حسينا]] و[[عبد الله بن عمر]] و[[عبد الله بن الزبير]] بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة. <ref>ابن جرير، تاريخ الطبري، ج 5، ص 338. </ref> وقد تحولت البيعة في ذلك العصر إلى حالة شكلية وتشريفية، وطريقة للإعلان عن الوفاء لأمر الحاكم الجديد. <ref>ابن جرير، تاريخ الطبري، ج 7، ص 311، 471، ج 6، ص 423. </ref> بل المبايعة للحاكم المرتقب بعد الحاكم الفعلي أو ما بات يعرف اليوم بولي العهد. <ref>المسعودي، مروج الذّهب، ج 4، ص 210-211. </ref>
وربما تعقد البيعة في بدايات حكم [[الخليفة]] تحت التطميع وبذل الأموال الطائلة حتى أنّ الاموال التي بذلت في بيعة [[المقتدر العباسي]] بلغت ثلاثة ملايين دينار، واستحدثوا ما سمّي برزق البيعة يطالب به المبايعون من رجال الجيش والقواد. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج۱، ص۲۸۶ </ref> ولعل الراغب الاصفهاني قصد هذا المعنى في تعريفه للبيعة بقوله: "بايعَ السلطان: إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له". يضاف إلى ذلك أن المصادر التاريخية أشارت إلى البيعة الخاصّة التي يقوم بها الساسة وقادة العسكر والوزراء، للخليفة في عصر خلفاء بني العباس المنصور والمهدي وعيسى العباسي. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج 1، ص 290-291. </ref>
وربما تعقد البيعة في بدايات حكم [[الخليفة]] تحت التطميع وبذل الأموال الطائلة حتى أنّ الاموال التي بذلت في بيعة [[المقتدر العباسي]] بلغت ثلاثة ملايين دينار، واستحدثوا ما سمّي برزق البيعة يطالب به المبايعون من رجال الجيش والقواد. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج۱، ص۲۸۶ </ref> ولعل الراغب الاصفهاني قصد هذا المعنى في تعريفه للبيعة بقوله: "بايعَ السلطان: إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له". يضاف إلى ذلك أن المصادر التاريخية أشارت إلى البيعة الخاصّة التي يقوم بها الساسة وقادة العسكر والوزراء، للخليفة في عصر خلفاء بني العباس المنصور والمهدي وعيسى العباسي. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج 1، ص 290-291. </ref>
سطر ٥٧: سطر ٥٧:
== أنواع البيعة ==
== أنواع البيعة ==
يظهر من المعنى اللغوي للبيعة أنها تتم عادة بأن يضرب المبايِع بيده على يد المبايَع أو ما يعرف بالصفق أو الصفقة؛ وقد سرى العمل بهذه الطريقة– حسب بعض اللغويين- في القَسم (الحلف) ومن هنا سمّي القسم باليمين؛ كما أنّ تسمية البيعة بالصفقة هي الأخرى تنطلق من نفس المعنى. <ref>المجلسي، بحار الأنوار، ج۲، ص۲۶۶، ج۲۷، ص۶۸ </ref> وكانت هذه هي الطريقة المعتمدة في مبايعة الرجال للرسول الأكرم {{صل}}. <ref>نهج البلاغة، الخطبة ۸، ۱۳۷، ۱۷۰، ۲۲۹ </ref>
يظهر من المعنى اللغوي للبيعة أنها تتم عادة بأن يضرب المبايِع بيده على يد المبايَع أو ما يعرف بالصفق أو الصفقة؛ وقد سرى العمل بهذه الطريقة– حسب بعض اللغويين- في القَسم (الحلف) ومن هنا سمّي القسم باليمين؛ كما أنّ تسمية البيعة بالصفقة هي الأخرى تنطلق من نفس المعنى. <ref>المجلسي، بحار الأنوار، ج۲، ص۲۶۶، ج۲۷، ص۶۸ </ref> وكانت هذه هي الطريقة المعتمدة في مبايعة الرجال للرسول الأكرم {{صل}}. <ref>نهج البلاغة، الخطبة ۸، ۱۳۷، ۱۷۰، ۲۲۹ </ref>
وذهب بعض [[مفسرون الشيعة|المفسرين]] إلى تفسير قوله تعالى في الآية العاشرة من سورة الفتح "يد الله فوق أيديهم" بأنّها إشارة إلى البيعة ووضع يدهم في يد الرسول. <ref>الطباطبائي، الميزان، ذيل الآية </ref> ومع ذلك كلّه فقد أشارت الأحاديث إلى طريقة أخرى في البيعة. <ref>المجلسي، بحار الأنوار، المجلسي، ج۴۹، ص۱۴۴، ۱۴۶، ج۶۴، ص۱۸۴ـ۱۸۶ </ref> وقد يكتفى بالبيعة أحيانا بمجرد إعلان رضا المبايع بلا حاجة إلى الصفق باليد. <ref>شهيدي، "‌بيعت وچگونگي آن در تاريخ اسلام"، ص۱۲۷ </ref>
وذهب بعض [[التفسير|المفسرين]] إلى تفسير قوله تعالى في الآية العاشرة من سورة الفتح "يد الله فوق أيديهم" بأنّها إشارة إلى البيعة ووضع يدهم في يد الرسول. <ref>الطباطبائي، الميزان، ذيل الآية </ref> ومع ذلك كلّه فقد أشارت الأحاديث إلى طريقة أخرى في البيعة. <ref>المجلسي، بحار الأنوار، المجلسي، ج۴۹، ص۱۴۴، ۱۴۶، ج۶۴، ص۱۸۴ـ۱۸۶ </ref> وقد يكتفى بالبيعة أحيانا بمجرد إعلان رضا المبايع بلا حاجة إلى الصفق باليد. <ref>شهيدي، "‌بيعت وچگونگي آن در تاريخ اسلام"، ص۱۲۷ </ref>


=== البيعتان الخاصّة والعامّة ===
=== البيعتان الخاصّة والعامّة ===
سطر ٦٦: سطر ٦٦:


=== البيعة بواسطة الوكيل والنائب ===
=== البيعة بواسطة الوكيل والنائب ===
قد تتم البيعة لشخص ما عن طريق وكيله أو نائبه فقد ذكر [[الشيخ المفيد]] أنّ النساء بايعن علياً {{عليه السلام}} نيابة عن النبي {{صل}} في [[الحديبية]]. <ref>المفيد، الإرشاد، ص۶۳</ref> ومنها مبايعة أهل [[الكوفة]] ل[[مسلم بن عقيل]] نيابة عن [[الإمام الحسين عليه السلام|الحسين]] {{عليه السلام}}، <ref>المسعودي، مروج الذهب، ج۳، ص۶۴ </ref> وأخذ النبي {{صل}} بيعة [[عثمان بن عفان]] في الحديبية بعدما أرسله إلى [[مكة]] المكرمة لمفاوضة [[اقريش|القرشيين]]. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ج۱، ص۲۸۹ </ref> وبعد أن توسعت رقعة الدولة الإسلامية وترامت أطرافها بدأ الحكّام بأخذ البيعة عن طريق الأمراء والحكّام في تلك البلدان معتبرين مبايعة الوالي والأمير مبايعة للحاكم نفسه. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج۱، ص۲۸۹ـ۲۹۰ </ref>
قد تتم البيعة لشخص ما عن طريق وكيله أو نائبه فقد ذكر [[الشيخ المفيد]] أنّ النساء بايعن علياً {{عليه السلام}} نيابة عن النبي {{صل}} في [[الحديبية]]. <ref>المفيد، الإرشاد، ص۶۳</ref> ومنها مبايعة أهل [[الكوفة]] ل[[مسلم بن عقيل]] نيابة عن [[الإمام الحسين عليه السلام|الحسين]] {{عليه السلام}}، <ref>المسعودي، مروج الذهب، ج۳، ص۶۴ </ref> وأخذ النبي {{صل}} بيعة [[عثمان بن عفان]] في الحديبية بعدما أرسله إلى [[مكة]] المكرمة لمفاوضة [[قريش|القرشيين]]. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ج۱، ص۲۸۹ </ref> وبعد أن توسعت رقعة الدولة الإسلامية وترامت أطرافها بدأ الحكّام بأخذ البيعة عن طريق الأمراء والحكّام في تلك البلدان معتبرين مبايعة الوالي والأمير مبايعة للحاكم نفسه. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج۱، ص۲۸۹ـ۲۹۰ </ref>


== تغيير شكل البيعة ==
== تغيير شكل البيعة ==
سطر ٨٠: سطر ٨٠:
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن دراسات مفكري العامّة [[علم الكلام|الكلامية]] و[[الفقه الإسلامي|الفقهية]] وإن أولت البيعة اهتماماً كبيراً ورتبت عليها الكثير من الآثار على المستويين الفقهي والكلامي إلا أنّها لم تهتم– الّا قليلا- بتسليط الأضواء على ماهية البيعة وتحليل جوهرها.
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن دراسات مفكري العامّة [[علم الكلام|الكلامية]] و[[الفقه الإسلامي|الفقهية]] وإن أولت البيعة اهتماماً كبيراً ورتبت عليها الكثير من الآثار على المستويين الفقهي والكلامي إلا أنّها لم تهتم– الّا قليلا- بتسليط الأضواء على ماهية البيعة وتحليل جوهرها.
نعم، تعرضت المصادر الفقهية المتأخرة لدى الفريقين– [[الشيعة]] و[[أهل السنة|السنة-]] لبيان الماهية الحقوقية للبيعة، حيث طرحت مجموعة من الاحتمالات؛ فذهب الكثير منها- انطلاقا من الشبه بين البيعة وبين عقد البيع- إلى القول بأنّ البيعة عقد يتضمن تعهّد الطرفين. وبتعبير الفقهاء والحقوقيين: البيعة عقد معوّض. بأن يتعهد المبايِع بالطاعة والانصياع لأوامر الحاكم أو الخليفة والوفاء له فيما يتعهد المُبايَع بأن يحكم ب[[القرآن الكريم|كتاب الله]] و[[السنة النبوية|سنّة النبي]] والدفاع عن الرعية وتدبير شؤنهم بصدق وأمانة وغير ذلك.<ref>مكارم، انوار الفقاهة: كتاب البيع، ج۱، ص۵۱۷  و  قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ج۱، ص۲۷۳ـ ۲۷۴ </ref> فيما فسّرها البعض الآخر بأنّها: بيع النفس مقابل رضوان الله تعالى و[[الجنة]]. <ref>الطبرسي، جوامع الجامع، ذيل الآيه </ref>
نعم، تعرضت المصادر الفقهية المتأخرة لدى الفريقين– [[الشيعة]] و[[أهل السنة|السنة-]] لبيان الماهية الحقوقية للبيعة، حيث طرحت مجموعة من الاحتمالات؛ فذهب الكثير منها- انطلاقا من الشبه بين البيعة وبين عقد البيع- إلى القول بأنّ البيعة عقد يتضمن تعهّد الطرفين. وبتعبير الفقهاء والحقوقيين: البيعة عقد معوّض. بأن يتعهد المبايِع بالطاعة والانصياع لأوامر الحاكم أو الخليفة والوفاء له فيما يتعهد المُبايَع بأن يحكم ب[[القرآن الكريم|كتاب الله]] و[[السنة النبوية|سنّة النبي]] والدفاع عن الرعية وتدبير شؤنهم بصدق وأمانة وغير ذلك.<ref>مكارم، انوار الفقاهة: كتاب البيع، ج۱، ص۵۱۷  و  قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ج۱، ص۲۷۳ـ ۲۷۴ </ref> فيما فسّرها البعض الآخر بأنّها: بيع النفس مقابل رضوان الله تعالى و[[الجنة]]. <ref>الطبرسي، جوامع الجامع، ذيل الآيه </ref>
ثم، إنّ التأمل في البيعات التي تمّت في حياة [[النبي الأكرم]] {{صل}} يظهر رغم ايحائه بعقدية البيعة، إلا أنّ رصد واقعها التاريخي يؤكد أن حقيقة البيعة تعهد من قبل المُبايِع، ب[[الإسلام]] ونصرة النبي {{صل}} وطاعته ومجاهدة [[الكافرون|الكافرين]] و[[الشرك|المشركين]]، من دون أيّ تعهد من قبل النبي {{صل}}. نعم، ورد في حديث ذكره [[العلامة المجلسي|صاحب البحار]] وجود تعهد متقابل بين المُبايِع والمُبايَع. <ref>المجلسي، بحار، ج۱۹، ص۲۶ </ref> إلا أنّ المراد من حقوق المبايعين المذكورة في [[الحديث]] و[[الآيات الشريفة]] هي النصرة والثواب الإلهي وهو في الحقيقة ثمرة البيعة والنتيجة المترتبة على الالتزام والتمسّك بمفادها، لا أنه عوض لعملية البيعة. وهذا ما أشار إليه [[أمير المؤمنين]] {{عليه السلام}} في الخطبة الرابعة والثلاثين من [[نهج البلاغة]] حين قال:
ثم، إنّ التأمل في البيعات التي تمّت في حياة [[النبي الأكرم]] {{صل}} يظهر رغم ايحائه بعقدية البيعة، إلا أنّ رصد واقعها التاريخي يؤكد أن حقيقة البيعة تعهد من قبل المُبايِع، ب[[الإسلام]] ونصرة النبي {{صل}} وطاعته ومجاهدة [[الكافرون|الكافرين]] و[[الشرك|المشركين]]، من دون أيّ تعهد من قبل النبي {{صل}}. نعم، ورد في حديث ذكره [[العلامة المجلسي|صاحب البحار]] وجود تعهد متقابل بين المُبايِع والمُبايَع. <ref>المجلسي، بحار، ج۱۹، ص۲۶ </ref> إلا أنّ المراد من حقوق المبايعين المذكورة في [[الحديث]] [[الآيات القرآنية|والآيات القرآنية]] هي النصرة والثواب الإلهي وهو في الحقيقة ثمرة البيعة والنتيجة المترتبة على الالتزام والتمسّك بمفادها، لا أنه عوض لعملية البيعة. وهذا ما أشار إليه [[أمير المؤمنين]] {{عليه السلام}} في الخطبة الرابعة والثلاثين من [[نهج البلاغة]] حين قال:
:"وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ". <ref>نهج البلاغة، الخطبه ۳۴ </ref> ومن هنا نرى الكثير من المحققين يذهبون إلى تفسير مفهوم البيعة بـ "التعهد بالطاعة" أو "بذل الطاعة". <ref>الشهرستاني، مدخل الى علم الفقه، ص۱۵۵ و  معرفت، ولايت فقيه، ص۸۲ </ref> فيما ذهب آخرون إلى كونها عقد غير معوّض كالهبة غير المعوضة. <ref>عبدالمجيد، البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي، ص۲۲ </ref> بل هناك مَن أخرجها عن مقولة العقد وأدرجها تحت مقولة الإيقاعات. <ref>مكارم، أنوار الفقاهة: كتاب البيع، ج۱، ص۵۱۷ </ref> وقال آخرون: هي تعهد أحادي الطرف وليست من مقولة التعاهد. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج۱، ص۲۷۶ </ref>
:"وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ". <ref>نهج البلاغة، الخطبه ۳۴ </ref> ومن هنا نرى الكثير من المحققين يذهبون إلى تفسير مفهوم البيعة بـ "التعهد بالطاعة" أو "بذل الطاعة". <ref>الشهرستاني، مدخل الى علم الفقه، ص۱۵۵ و  معرفت، ولايت فقيه، ص۸۲ </ref> فيما ذهب آخرون إلى كونها عقد غير معوّض كالهبة غير المعوضة. <ref>عبدالمجيد، البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي، ص۲۲ </ref> بل هناك مَن أخرجها عن مقولة العقد وأدرجها تحت مقولة الإيقاعات. <ref>مكارم، أنوار الفقاهة: كتاب البيع، ج۱، ص۵۱۷ </ref> وقال آخرون: هي تعهد أحادي الطرف وليست من مقولة التعاهد. <ref>قاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ج۱، ص۲۷۶ </ref>


سطر ٩٥: سطر ٩٥:


=== البيعة في الفكر السياسي الشيعي ===
=== البيعة في الفكر السياسي الشيعي ===
يرى [[الفكر السياسي الشيعي]] أنّ البيعة لم تكن بالأمر المطاط والسيّال في كل الأمور بل هناك موضوعات لا تصح البيعة فيها ولابد أن يكون موضوع عقد البيعة مشروعا ومسموحا به من ناحية المقنن الإسلامي حتى على القول بأنّ "البيعة عقد". فعلى سبيل المثال يرى [[علم الكلام|المتكلمون]] الشيعة]] أنّ [[الإمامة]] وخلافة [[النبي الأكرم]] {{صل}} من الموضوعات التي لا تتم بالبيعة، بل قام الدليلان العقلي والنقلي على ثبوتها بالنص والدليل الشرعي وأنّ الإمام لا بد أن يكون منصوصا عليه من عند [[الله]] وعلى لسان النبي. <ref>مظفر، دلائل الصِّدْق، ج۲، ص۲۵ـ۳۲ </ref> نعم، يمكن الاستناد– عند بعض الفقهاء الشيعة- للقول بلزوم عقد البيعة إلى أدلة لزوم الوفاء بالعقد أو الشرط كقوله تعالى "أوفوا بالعقود" <ref>  المائدة: ۱ و السبحاني، مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الاسلاميه، ص۲۶۲ـ۲۶۳ و الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة، ص۲۰۱ـ۲۰۲ </ref>. إلا أنّ تلك الأدلة بنفسها لا تصحّّ لإضفاء المشروعية على موضوع العقد بل أقصى ما تدل عليه هو لزوم الوفاء بشروط العقود المشروعة. <ref>الحائري، ولاية الامر في عصر الغيبة، ص۱۶۴ و خلخالي، حاكميت در اسلام، ص۵۸۰ </ref>
يرى [[الفكر السياسي الشيعي]] أنّ البيعة لم تكن بالأمر المطاط والسيّال في كل الأمور بل هناك موضوعات لا تصح البيعة فيها ولابد أن يكون موضوع عقد البيعة مشروعا ومسموحا به من ناحية المقنن الإسلامي حتى على القول بأنّ "البيعة عقد". فعلى سبيل المثال يرى [[علم الكلام|المتكلمون]] الشيعة أنّ [[الإمامة]] وخلافة [[النبي الأكرم]] {{صل}} من الموضوعات التي لا تتم بالبيعة، بل قام الدليلان العقلي والنقلي على ثبوتها بالنص والدليل الشرعي وأنّ الإمام لا بد أن يكون منصوصا عليه من عند [[الله]] وعلى لسان النبي. <ref>مظفر، دلائل الصِّدْق، ج۲، ص۲۵ـ۳۲ </ref> نعم، يمكن الاستناد– عند بعض الفقهاء الشيعة- للقول بلزوم عقد البيعة إلى أدلة لزوم الوفاء بالعقد أو الشرط كقوله تعالى "أوفوا بالعقود" <ref>  المائدة: ۱ و السبحاني، مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الاسلاميه، ص۲۶۲ـ۲۶۳ و الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة، ص۲۰۱ـ۲۰۲ </ref>. إلا أنّ تلك الأدلة بنفسها لا تصحّّ لإضفاء المشروعية على موضوع العقد بل أقصى ما تدل عليه هو لزوم الوفاء بشروط العقود المشروعة. <ref>الحائري، ولاية الامر في عصر الغيبة، ص۱۶۴ و خلخالي، حاكميت در اسلام، ص۵۸۰ </ref>
ثم إنّ ماهية البيعة في حياة النبي {{صل}}- عند مفكري الشيعة– انطلاقا من المعنى اللغوي ووجوب طاعة الرسول فضلا عن الأدلة العقلية والنقلية، لم تكن إنشائية، بل هي ذات جنبة تأكيدية فقط لتعزيز وتأكيد الإيمان وطاعة الرسول عملا والتعهد يلزم الإيمان. وحسب تعبير البعض: إيجاد غاية جديدة لنصرة النبي وطاعته؛ إذ أنّ أصل مشروعية النبي وثبوت مقام الولاية له بل حتى وجوب اتباعه لا تتوقف على البيعة. <ref>منتظري، دراسات، ج۱، ص۵۲۶  و  مكارم، أنوار الفقاهة: كتاب البيع، ج۱، ص۵۱۸ ـ ۵۱۹ </ref>وهذا البعد بالتأكيد ربما يكون مشهودا في البيعات التي حصلت في عصر الخلفاء خاصّة في البيعات التي سبقها تنصيب من الخليفة السابق من قبيل خلافتي [[عمر بن الخطاب]] و[[عثمان بن عفان]]. <ref> السبحاني، مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الاسلامية، ص۲۶۳  و كاظم الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة، ص۲۰۹ </ref> وهذه النظرية في الفكر السني مستلة– ظاهراً- من تقاليد العرب قبل الإسلام، حيث كان رائجاً بينهم إذا مات منهم أمير أو رئيس عمدوا إلى (شخص) فأقاموه مكان الراحل بالبيعة. ومن هنا فإن تعيين بعض الخلفاء بعد النبيّ {{صل}} كان من هذا المنطلق حسب الظاهر، وإن كان على غير ذلك في الباطن، فإنّ الظاهر هو أنّ خلافة أبي بكر تمّت في السقيفة، وانتهى كلّ شي‏ء هناك، ثمّ أريد من بقية الناس- بعد السقيفة- أن يبايعوا أبا بكر، لتعميم نفوذه. فكانت بيعتهم للخليفة بمثابة التأييد والتسليم لما تمّ في السقيفة قبلًا، وكانت خلافة عثمان قد تمت وتحققت بالشورى فكانت البيعة بعد الشورى تنفيذاً لقرارها. وإمضاءً، لا اختياراً وانتخاباً شعبياً. <ref>انظر: السبحاني: مفاهيم القرآن، ج‏2، ص: 240</ref> أو أنّ ذلك قائم على الاعتقاد بأنّ جميع [[الخلافة|خلفاء]] الرسول {{صل}} يتم انتخابهم من قبل الأمّة عن طريق البيعة، ولم ينص [[النبي]] على أحد منهم.
ثم إنّ ماهية البيعة في حياة النبي {{صل}}- عند مفكري الشيعة– انطلاقا من المعنى اللغوي ووجوب طاعة الرسول فضلا عن الأدلة العقلية والنقلية، لم تكن إنشائية، بل هي ذات جنبة تأكيدية فقط لتعزيز وتأكيد الإيمان وطاعة الرسول عملا والتعهد يلزم الإيمان. وحسب تعبير البعض: إيجاد غاية جديدة لنصرة النبي وطاعته؛ إذ أنّ أصل مشروعية النبي وثبوت مقام الولاية له بل حتى وجوب اتباعه لا تتوقف على البيعة. <ref>منتظري، دراسات، ج۱، ص۵۲۶  و  مكارم، أنوار الفقاهة: كتاب البيع، ج۱، ص۵۱۸ ـ ۵۱۹ </ref>وهذا البعد بالتأكيد ربما يكون مشهودا في البيعات التي حصلت في عصر الخلفاء خاصّة في البيعات التي سبقها تنصيب من الخليفة السابق من قبيل خلافتي [[عمر بن الخطاب]] و[[عثمان بن عفان]]. <ref> السبحاني، مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الاسلامية، ص۲۶۳  و كاظم الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة، ص۲۰۹ </ref> وهذه النظرية في الفكر السني مستلة– ظاهراً- من تقاليد العرب قبل الإسلام، حيث كان رائجاً بينهم إذا مات منهم أمير أو رئيس عمدوا إلى (شخص) فأقاموه مكان الراحل بالبيعة. ومن هنا فإن تعيين بعض الخلفاء بعد النبيّ {{صل}} كان من هذا المنطلق حسب الظاهر، وإن كان على غير ذلك في الباطن، فإنّ الظاهر هو أنّ خلافة أبي بكر تمّت في السقيفة، وانتهى كلّ شي‏ء هناك، ثمّ أريد من بقية الناس- بعد السقيفة- أن يبايعوا أبا بكر، لتعميم نفوذه. فكانت بيعتهم للخليفة بمثابة التأييد والتسليم لما تمّ في السقيفة قبلًا، وكانت خلافة عثمان قد تمت وتحققت بالشورى فكانت البيعة بعد الشورى تنفيذاً لقرارها. وإمضاءً، لا اختياراً وانتخاباً شعبياً. <ref>انظر: السبحاني: مفاهيم القرآن، ج‏2، ص: 240</ref> أو أنّ ذلك قائم على الاعتقاد بأنّ جميع [[الخلافة|خلفاء]] الرسول {{صل}} يتم انتخابهم من قبل الأمّة عن طريق البيعة، ولم ينص [[النبي]] على أحد منهم.
إلا أنّ هذه النظرية لا يصحّ الركون إلى كلا الفرضين المذكورين فيها.
إلا أنّ هذه النظرية لا يصحّ الركون إلى كلا الفرضين المذكورين فيها.
مستخدم مجهول