الانصراف (أصول الفقه)
الانصراف مصطلح علمي ينتمي لأبحاث علم أصول الفقه؛ وهو يعني: انصراف الذهن عن بعض أفراد المعنى (الطبيعة) إلى البعض الآخر عند سماع اللفظ المطلق. وبعبارة أخرى: هو حضور حصة معينة من المعنى المطلق إلى الذهن عند سماع اللفظ المطلق؛ على الرغم من اشتمال اللفظ على حصص أخرى من المعنى غير هذه الحصة. مثال ذلك: أن ينصرف الذهن عند سماع كلمة "حيوان" عن الإنسان رغم أن الإنسان من حصص المعنى الذي يدل عليه هذا اللفظ، فينتقل الذهن إلى كل حصص الحيوان دون حصة الإنسان.
تعريف الانصراف
في اللغة
الانصراف في اللغة مصدر انصرف عن الشيء؛ أي: تحوّل عنه وتركه.[١] والصّرف: ردّ الشيء من حالة إلى حالة، أو إبداله بغيره. [٢] هذا إذا عدّي ب «عن» ، وأمّا إذا عدّي ب «إلى» ، فمعناه: التحوّل عن غير الشيء إليه. [٣]
في الاصطلاح
استعمل الانصراف في معناه اللغوي، وفي معنى خاصّ؛ أمّا المعنى اللغوي، فمثل:
- الانصراف عن الصلاة، أي إتمامها، أو قطعها.
- والانصراف عن القتال، بمعنى تركه.
- والانصراف عن الطواف وعن الزيارة، مثل الانصراف عن الصلاة.
وأمّا المعنى الخاصّ، فهو: انتقال ذهن السامع إلى معنى خاصّ من بين سائر المعاني عند إطلاق الكلمة، مثل: انتقال ذهنه إلى ماء دجلة إذا كان يعيش على ضفافها عند سماعه كلمة «الماء». [٤]
أقسام الانصراف
ينقسم الانصراف إلى ستة أقسام؛ هي:
1. الانصراف الخطوري الناشئ عن غلبة الوجود الموجبة لانصراف المطلق إليه؛ كانصراف «الماء» إلى ماء دجلة في ذهن المقيم على ضفافها، كما تقدّم.
2. الانصراف البدوي الموجب للشكّ البدوي في إرادة المنصرف إليه، لكنّه يزول بالتأمّل، مثل انصراف «العالم» إلى خصوص من تزيّا بالعمّة. والفرق بينهما: أنّ هذا يوجب الشكّ البدوي في إرادة المنصرف إليه من المطلق، ويزول بالتأمّل، والأوّل لا يوجب الشك البدوي ولا يزول بالتأمّل. ويشتركان في عدم تقييد الإطلاق بهما، كما سيأتي بيانه، لكن ذكرهما الأغلب تحت عنوان «الانصراف البدوي».
3. الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهية عند العرف؛ لأنّ الماهية لا تشكيك فيها واقعاً. وهو على قسمين:
- أولاً: أن يكون التشكيك بحيث يحكم العرف. بخروج الفرد المنصرف عنه من مصاديق المطلق؛ كانصراف لفظ «ما لا يؤكل لحمه» عن الإنسان، وعدم شموله له بنظر العرف، فيكون ظاهرا في غير الإنسان، وهو القدر المتيقّن؛ ولذلك جوّز الفقهاء الصلاة في شعره وظفره مع ورود: «لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه، ولا يؤكل لحمه» [٥]؛ لانصراف «ما لا يؤكل لحمه» إلى غير الإنسان.
- وثانياً: أن يكون التشكيك بحيث يشكّ العرف في خروج الفرد المنصرف عنه من مصاديق المطلق؛ مثل انصراف لفظ «الماء» عن بعض المياه، كالممتزجة بالنفط بحيث يسلبها اسم الماء. وهذا الانصراف وإن لم يكن موجبا لظهور اللفظ في المنصرف إليه، كما في الفرض السابق، إلاّ أنّه من قبيل اللفظ المحفوف بما يصلح للقرينيّة؛ وبذلك لا يكون اللفظ ظاهرا في الإطلاق؛ لأنّ من شرائطه عدم وجود قرينة أو ما يصلح لها على خلافه.
4. الانصراف الناشئ عن غلبة الاستعمال في فرد خاصّ بحيث يصل إلى حدّ المجاز المشهور.
5. الانصراف الناشئ عن غلبة الاستعمال في المعنى المنصرف إليه بحيث يصير اللفظ مشتركا بينه وبين المعنى الحقيقي؛ كما إذا قلنا: إنّ «الصعيد» موضوع لمطلق وجه الأرض، لكن استعمل في خصوص التراب الخالص حتّى صار مشتركاً بينهما.
6. الانصراف الناشئ عن غلبة الاستعمال في المعنى المنصرف إليه بحيث ينقل اللفظ إليه ويهجر المعنى الأوّل. [٦]
تعرّّض لهذه الأقسام الستّة صاحب الكفاية، لكن أغلب تلامذته لم يتعرّضوا إلا للقسمين الأوّلين، وجعلوهما قسماً واحداً تحت عنوان «الانصراف البدوي»، وللقسم الثالث بفرديه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الانصراف إلى الخصوصيّة تارة يكون على نحو الإطلاق من دون اختصاصه بحالة خاصّة كالاختيار، وأخرى يكون مخصوصاً بها. فعلى الثاني يكون الانصراف إلى الخصوصية في تلك الحالة الخاصّة، كما إذا كان من عادة المولى أن يأكل طعاماً معيّناً في السفر، فقال لخادمه وهو في السفر: ائتني بالطعام، فينصرف ذهنه إلى ذلك الطعام المعيّن، فيكون الانصراف مختصّاً بحالة السفر. و مثال ذلك في الفقه ما لو ورد الأمر بوضع اليد على الأرض في حالة السجود، فإنّ المنصرف إلى الذهن هو وضع باطن اليد، ولكن هذا الانصراف إنّما هو في حالة الاختيار، وأمّا عند الاضطرار وعدم القدرة على ذلك فالمنصرف هو وضع ظاهر اليد، فإن لم يمكن، كما إذا كانت اليد مقطوعة، فالوضع على المحلّ المقطوع، أو الساعد وهكذا. [٧]
مناشئ الانصراف
للانصراف مناشئ وأسباب مختلفة، وهي:
1. غلبة الوجود: إنّ غلبة وجود فرد من أفراد المطلق قد يوجب للذهن أنساً به، بحيث ينصرف المطلق إليه عند إطلاقه، مثل انصراف «الماء» إلى ماء النهر في المناطق التي يوجد فيها النهر، أو ماء البئر في المناطق التي لا يوجد فيها غير ماء البئر، ومثل انصراف «الإنسان» إلى الإنسان ذي الرأس الواحد.
2. غلبة الاستعمال: و قد يحدث الانس للذهن بغلبة استعمال المطلق في أحد أفراده؛ مثل غلبة استعمال لفظ «الكتاب» عند الفقهاء والمفسّرين ونحوهم في القرآن الكريم، فإذا اطلق لفظ «الكتاب» ينصرف إليه. و قد تصل غلبة الاستعمال في فرد خاصّ إلى حدّ المجاز المشهور كما تقدّم.
3. الفهم العرفي والتعارف: و من مناشئ الانس الذهني الموجب للانصراف هو فهم العرف، فإذا فهم العرف معنى من بين معاني اللفظ عند إطلاقه، ينصرف إليه عند إطلاقه عندهم، وذلك مثل فهمهم من الغسل الغسل من الأعلى إلى الأسفل؛ ولذلك يقال: إنّ المراد من الغسل في آية الوضوء [٨] هو الغسل من المرفق إلى رؤوس الأصابع؛ لأنّه المتعارف دون العكس؛ لكونه غير متعارف. ومثله انصراف وضع اليد على الأرض -حالة الاختيار-إلى وضعها على باطن الكفّ؛ لأنّه المتعارف من وضع اليد على الأرض حالة الاختيار.
4. القدر المتيقّن: من مناشئ انصراف المطلق إلى بعض أفراده كونه قدراً متيقّناً من أفراد المطلق، مثل انصراف اللحم إلى لحم الغنم عند إطلاقه، فلو قال شخص لابنه: اشتر اللحم، فاشترى لحم الغنم، استنادا إلى الانصراف المذكور كان معذورا؛ لأنّه مانع عن انعقاد الإطلاق.
دور الانصراف في الإطلاق والتقييد
تنحصر استفادة الإطلاق باكتمال مقدمات الحكمة، ومنها: عدم وجود قرينة على خلاف الإطلاق، ومن القرائن العامّة التي ذكرت في هذا المورد هو الانصراف؛ فلذلك تكلّم الأصوليون عنه عند كلامهم على مقدّمات الحكمة في بحث المطلق والمقيد، ولكن فرّقوا بين أقسام الانصراف، فقالوا بمانعيّة بعضها عن الإطلاق دون بعضها الآخر. فأمّا القسمان الأوّل والثاني، فالمعروف عدم كونهما مانعين عن انعقاد الإطلاق؛ فلذلك قالوا:
- إنّ الانصراف بسبب غلبة الوجود لا يمنع من انعقاد الإطلاق[٩]، فلو قال شخص لابنه: اسقني ماءً، وكان واقفاً على نهر الفرات، فسقاه من ماء دجلة، أو ماء آخر كان معه، كان ممتثلاً؛ لشمول إطلاق كلمة «الماء» له، ولا يمنع من ذلك وقوفه على ماء الفرات. و أمّا فردا القسم الثالث، فهما يمنعان من انعقاد الإطلاق؛ ولذلك ينصرف «ما لا يؤكل لحمه» إلى غير الإنسان، ولفظ «الماء» عن بعض المياه. وهذان القسمان هما القدر المتيقن ممّا يمنع من انعقاد الإطلاق، وهما اللذان تعرّض لهما الأغلب. [١٠] وأمّا بالنسبة إلى غلبة الاستعمال بأقسامه، فالذي يظهر من صاحب الكفاية: أنّ غلبة الاستعمال لو أوجبت الاشتراك أو النقل أو المجاز المشهور، فالانصراف بسببها يمنع من انعقاد الإطلاق أيضاً. [١١]
الهوامش
- ↑ مجموعة مؤلفين، المعجم الوسيط، ج 1، ص 513.
- ↑ الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص 279.
- ↑ ابن منظور، لسان العرب، ج 9، ص 189 ــ 191.
- ↑ هذا هو المستفاد من مجموع كلامهم في الانصراف واستعمالاتهم له
- ↑ الوسائل 4: 346، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي الحديث 6
- ↑ انظر: كفاية الاصول:249، وأجود التقريرات:532، ونهاية الأفكار (1-2) :575-576، ومحاضرات في اصول الفقه 5:372-373، ومنتهى الدراية 3:729 -732، وقد اقتبسنا الأقسام الستّة منه، وحقائق الاصول 1:561، ولكن جعل الأقسام الستّة كالآتي: 1-الانصراف الخطوري، بمعنى محض خطور بعض الأفراد أو الأصناف في الذهن من دون أن يكون موجبا للشكّ، كمثال الماء. 2-الانصراف الموجب للشكّ البدوي الذي يزول بالتأمّل. 3-الانصراف الموجب للشكّ المستقرّ، وهو يوجب إجمال الكلام والتوقّف فيه عند معارضته مع أصالة الحقيقة. 4-الانصراف الموجب للظهور بحيث يرجّح على أصالة الحقيقة ويكون قرينة على التقييد. 5-ما يوجب الاشتراك. 6-ما يوجب النقل. ثمّ قال: «وهذه الأنواع مترتّبة في القوّة والضعف، فالأوّلان لا يقدحان في الإطلاق والبواقي تقدح فيه، والأخيران يوجبان مع ذلك رفع صلاحية اللفظ للإطلاق»
- ↑ ذكر هذا الأمر المحقّق العراقي، ثمّ استنتج قائلاً: «و عليه، فلا بأس بالتمسّك بإطلاقات أوامر المسح باليد في وجوب المسح بظاهر الكفّين مع عدم التمكّن من المسح بباطنهما، بل وجوبه ببقيّة اليدين عند تعذّر المسح بظاهر الكفّين أيضا، كما هو المشهور. فلا يرد عليه حينئذ: أنّ المنصرف من الأمر بالمسح باليد لو كان هو المسح بباطن الكفّين بحيث كان بمنزلة التقييد اللفظي، لما كان وجه لدعوى وجوبه بظاهرهما مع العجز عن المسح بباطنهما، من جهة أنّ مقتضى الانصراف المزبور بعد كونه بمنزلة التقييد اللفظي حينئذ، إنّما كان سقوط وجوب المسح رأساً، فيحتاج إثبات وجوبه بظاهر الكفّين إلى دليل خاصّ، وإلاّ فلا يجديه إطلاقات أوامر المسح باليد. إذ نقول: بأنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو كان الانصراف المزبور أوّلا بنحو الإطلاق، وإلاّ فمع فرض اختصاصه بحال القدرة وعدم العجز لا مجال لهذا الإشكال...». نهاية الأفكار (1-2) :577
- ↑ سورة المائدة: 6
- ↑ انظر: محاضرات في اصول الفقه 5: 373
- ↑ انظر: كفاية الأصول: 249، ونهاية الأفكار (1-2)
- ↑ انظر: كفاية الاصول: 249، و منتهى الدراية 3: 171
المصادر والمراجع
- الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، نشر مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1415 ه ق
- موسوعة أصول فقه، مكتب التبليغ الإسلامي، الطبعة الأولى، 1415 ه ق