الشفاعة

من ويكي شيعة
(بالتحويل من شفاعة)
حديث الشفاعة في مسجد النبي (ص)
معتقدات الشيعة
‌معرفة الله
التوحيدالتوحيد الذاتيالتوحيد الصفاتيالتوحيد الأفعاليالتوحيد العبادي
الفروعالتوسلالشفاعةالتبرك
العدل
الحسن والقبحالبداءالجبر والتفويض
النبوة
عصمة الأنبياءالخاتمية نبي الإسلامعلم الغيبالإعجازعدم تحريف القرآنالوحي
الإمامة
الاعتقاداتالعصمةعصمة الأئمةالولاية التكوينيةعلم الغيبالغيبةالغيبة الصغرىالغيبة الكبرىإنتظار الفرجالظهورالرجعةالولايةالبراءةأفضلية أهل البيت(ع)
الأئمةالإمام علي عليه السلام

الإمام الحسن عليه السلام
الإمام الحسين عليه السلام
الإمام السجاد عليه السلام
الإمام الباقر عليه السلام
الإمام الصادق عليه السلام
الإمام موسى الكاظم عليه السلام
الإمام الرضا عليه السلام
الإمام الجواد عليه السلام
الإمام الهادي عليه السلام
الإمام العسكري عليه السلام

الإمام المهدي عج
المعاد
البرزخالقبرالنفخ في الصورالمعاد الجسمانيالحشرالصراطتطاير الكتبالميزانيوم القيامةالثوابالعقابالجنةالنارالتناسخ
مسائل متعلقة بالإمامة
أهل البيت المعصومون الأربعة عشرالتقية المرجعية الدينية

الشفاعة، هي أن يتوسط مخلوق بين الله وسائر المخلوقات لجلب الخير أو لدفع الشر في الدنيا والآخرة. إن الشفاعة من المفاهيم الدينية التي يعتقد بها كافة المسلمين، وبناء على المعتقد الشيعي فإن الشفاعة لله بصورة عامة، ولا أحد يمكن أن يشفع دون إذنه، وعليه، فإن ارتضى الله إيمان عبد أذن للشفعاء أن يشفعوا له، كما أن للشفاعة مكانة خاصة عند الشيعة.

ويقبل أهل السنة أيضا أصل الشفاعة، وورد في مصادرهم أن النبي (ص) تشفع للمؤمنين، وتعتقد الوهابية من بين المسلمين أن الشفاعة لله فحسب، والاستشفاع بغير الله يعد شركا.


الشفاعة في القرآن الكريم

وردت مادة «شفع» في ثلاثين موضعا من القرآن الكريم، وإذا ما تمّ الرجوع لهذه الثلاثين موضعا، يمكن الخروج برؤية واضحة عن مفهوم الشفاعة في القرآن الكريم، وهي لا تبعد عن معنى الشفاعة المستعمل في عُرف النّاس، والذي هو «تَدخُلُ شخصٍ لدى شخص آخر بهدف تحصيل‏ مسامحة منه في حقٍ أو حكمٍ ثابت في عاتق شخص ثالث»، ولذلك رفض القرآن الكريم هذا المعنى تارة وأقرّه تارة اُخرى.

وعليه فالشفاعة في القرآن الكريم على قسمين : الشفاعة الباطلة والشفاعة الشرعية الصحيحة.

الشفاعة الباطلة

لأنّها تتضمن معنى الشرك، من قبيل قول المشركين عن الأصنام: « هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ‏»[١]، وبطلان هذه الشفاعة أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فهؤلاء هم الذين عيّنوا الشفعاء لأنفسهم من جهة، واعتقدوا فيهم تدبيرا وتأثيرا على اللّه‏ من جهة ثانية، وكلتا الجهتين باطلتين، ذلك أنّ الشفاعة تقتضي بطبعها أن يكون الشفيع مقبولاً لدى المُشَفّع، فكيف تكون الأصنام شفيعةً عند اللّه‏ ؟، ثم إنّ الشفيع ليس له قدرة مستقلة عن اللّه‏ سبحانه، وبالتالي لا يمكن افتراض أن يكون مؤثرا فيه، لذا فهذه ليست شفاعة أصلاً وإنما ركام من الخيالات والأوهام.

وفي مقام ردّها، قال القرآن الكريم :

  • « {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُون} »[٢].
  • وأوضح من ذلك قوله تعالی : « {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} »،[٣].
  • وقوله تعالى : « {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} »[٤] .

فكلام المشركين عن الشفاعة والشفعاء بلا أساس ولا مستند، لأنّ الشفاعة رحمة يفيضها اللّه‏ على عباده عبر وسائط يختارها ويعيّنها بنفسه، والرحمة لا تدرك المشركين، والشفعاء وسائط يُعَيّنهم اللّه ‏ ولا يختارهم المشركون، والشفيع واسطة في انتقال الرحمة وليس سبباً فيها، ولأجل هذه الخصائص بطلت الشفاعة الشركية.

الشفاعة الشرعية الصحيحة

وهي ما كانت بإذن اللّه ‏، ومن قِبَل أفراد رضي اللّه‏ عنهم وعيّنهم للشفاعة، ولصالح أفراد رضي اللّه‏ في الشفاعة لهم، فهنا ثلاثة شروط :

وَرَدَ الشرط الأول في عدة آيات، منها: قوله تعالى : « { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } ».[٥]، فهذه الآية بنفسها دالة على الشرط الثاني، لأن الإذن إذا صدر من اللّه‏ سبحانه يكون إذنًا في الشفاعة وفي الشفيع، بما يعني رضا اللّه‏ سبحانه وتعالى عن الشفيع .
أما الشرط الثالث فقد ورد في قوله تعالى : « { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } » .[٦]، وحيث أنّ القسم الأوّل من الشفاعة يفتقد إلى هذه الشروط لذا سيجد المشركون أنفسهم في يوم القيامة بلا شفعاء، وسيدركون بطلان الشفاعة التي اعتقدوها، وسيقولون بألسنتهم « { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ }».[٧] .

فالقرآن الكريم يرسم اتجاهاً عاماً واُسلوباً شائعاً في التعبير عن مظاهر القدرة والكمال؛ يتمثّل بالنفي ثم الإثبات ثم الإفاضة، فيطرح آيات تنفي هذه المظاهر عن غير اللّه ‏، واُخرى تثبتها للّه ، وقسم ثالث يشير الى إفاضة اللّه‏ بعض هذه القابليات على بعض مخلوقاته، وهذا الاُسلوب بمراحله الثلاثة استعمله القرآن الكريم في مجالات الرزق والخلق والحكم والمُلك والموت، وهو جارٍ في موضوع الشفاعة أيضاً، فإن الآيات النافية للشفاعة عن غير اللّه‏ غرضها حصر الكمال والقدرة به تعالى،‏ ونفيها عمن سواه، والآيات المثبتة للشفاعة غرضها بيان أنّ الذات الإلهية تتصف بهذا المظهر من مظاهر القدرة والرحمة اتصافاً ذاتياً، والآيات التي تثبت الشفاعة لغير اللّه‏ غرضها التأكيد على قدرته ببيان أن هذه القدرة في أعلى مراحلها، بحيث إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد يتولى الشفاعة بنفسه وقد يحولها إلى من يرتضيه من عباده وأوليائه، أي يتصرف فيها وينقلها من نفسه إلى أحد أفراد خلقه.

ولعلّ من جملة أغراض هذا الاُسلوب القرآني تربية العبد على التعلق بالقدرة الإلهية والرحمة الربّانية المطلقة، وعدم الاعتداد بالعمل الصالح وحده، لأنّ العمل إنّما ينجّي في محكمة العدل إذا كان بالنحو المقتضي للنجاة، وهل هناك من يستطيع الادعاء بأنّه مستغنٍ بعمله عن رحمة اللّه ؟ بل يوغل القرآن الكريم في هذا الاتجاه أكثر حينما يشير بأن الاُمور لا تخرج عن يده وسلطانه وقدرته سبحانه وتعالى حتى عندما يقضي بقضاء حتمي لا تغيير له، كقوله تعالى : « { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } ».[٨]

فمع كونه تعالى قد حكم بالخلود في النار على الأشقياء، وبالخلود في الجنّة على السُعداء، وجعل هذا الخلود بمنزلة خلود السموات والأرض، لكنّه مع ذلك علّقه على مشيئته، إشعاراً منه بأنّ الاُمور لا تخرج من يديه وقبضته حتى تلك التي يُصدر فيها أحكاماً حتمية، فإذا كانت أحكامه تعالى الحتمية لا تسلب عنه القدرة على شيء، ولا تضطرّه إلى شيء، ولا توجب عليه شيئاً، فهل تكون أعمالنا أسباباً تسلب عنه القدرة وتوجب لنا عليه النجاة وتضطرّه الى شيء ؟!

ولعلّ الغاية منه‏ في تأكيده على قدرته المطلقة حتى في مثل تلك الموارد، هو ليجعل أنظار العباد تتعلّق إلى تلك القدرة التي لا يحدّها شيء ولا يقيدها شيء حتى قضاء اللّه ‏ وأحكامه ، فمن المناسب جداً أن يشير إلى أنّ عمل الإنسان مهما كان صالحاً لا يغنيه عن رحمة الباري تعالى، ولا يحدّ من قدرته، وإذا كانت مشيئة اللّه‏ شرطاً في خلود من حكم اللّه‏ له بالخلود في الجنّة أو في النّار، فمن الأولى أن تكون شرطاً فيمن لم يصدر بحقه بعد الحكم الإلهي .

وعليه فالشفاعة ليست إلاّ مظهراً لإرادة اللّه‏ ومشيئته ورحمته المطلقة، وهي لا تكون جزافاً بل على أساس ضابطة معينة، فالذي يريد بلوغ مقام علمي رفيع لابد وأن يكون قد أحرز بعض مقدماته، وبلغ درجة قريبة منه، فتكون الشفاعة هنا ذات معنى معقول، وهو المساعدة على بلوغ الهدف، ولا يكون لها معنى إذا طلبها الاُمِّيُ الذي لم يَسْعَ لأي من المقدمات، ورغب في بلوغ ذلك المقام عن طريق الشفاعة، وكذلك لا تتم الشفاعة لمن لا رابطة له تربطه بالمشفوع عنده أصلاً، كالجاحد الطاغي على سيده، فإنّه لا ينال رضا سيده بالشفاعة، فالشفاعة مُتَمِّمَةٌ للسبب وليست موجدةٌ له .

وكما أن تأثير الشفيع عند المولى لا يكون جزافاً، فلا يحق له أن يطلب من المولى إبطال قوانين الجزاء والعقاب، ولا إبطال مولويته بحق عبيده، ولا يطلب منه رفع اليد عن أحكامه وتكاليفه، بل لابد للشفيع من أن يسلّم للمولى بمولويته على عبيده، وبقوانينه وأحكامه بحقهم، وبما يجريه من الجزاء عقاباً أو ثواباً لهم، وإنّما يتمسك الشفيع بصفات في المولى توجب العفو والصفح، وبصفات في العبد تستدعي الرأفة والرحمة، كحسن سابقته، وسوء حاله، واعتذاره، أي أنّ دور الشفيع ليس إخراج العبد من مولوية المولى ودائرة أحكامه وجزاءاته، وإنما يتمثل دوره في السعي لنقل العبد من حكم مولوي إلى حكم مولوي آخر.

الشفيع

اتّضح مما سبق أنّ الشفاعة من جملة خصائص المولوية، فمن اتصف بالمولوية استطاع في دائرة نفوذ مولويته أن يمنح الشفاعة لمن يشاء لتكون مظهراً لرحمة المولى وقدرته في وقت واحد، وحيث إنّ مولوية اللّه‏ سبحانه هي المولوية الحقيقية الوحيدة في الوجود، وما عداها مولويات اعتبارية، لذا كانت الشفاعة من جملة الحقائق المختصة به، قال تعالى: « قل للّه‏ الشفاعة جميعاً»[٩] وما عداها إما شفاعة كاذبة؛ كقول المشركين: « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه‏»[١٠] أو شفاعة قد أذن اللّه‏ بها فهي مأخوذة منه، عائدة إليه؛ كقوله تعالي: « لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا».[١١]

وقد صرّح القرآن الكريم بأن الشفاعة المأذون بها تعطى لأصناف منهم:

  1. الملائكة: قال تعالى: « وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن اللّه‏ لمن يشاء ويرضى».[١٢]
  2. الشهداء بالحق: قال تعالى: « ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون».[١٣]

والشهداء بالحق هم طائفة من المؤمنين لابد وأن يكونوا أقلّ منزلة من الأنبياء، وأعلى درجة من سائر أفراد الأُمة، ولاشك أنّ [[أهل البيت عليهم السلام]] يأتون في طليعة هؤلاء بوصفهم أبرز مصداق لمن شهد بالحق وعمل به وجاهد من أجله، فضلاً عن كونهم ممّن نصّ القرآن الكريم على عصمتهم.[١٤]

وإذا طالعنا الأحاديث النبوية الشريفة وجدنا فيها تفسير ذلك:

قال رسول اللّه‏ (ع): «يشفع يوم القيامة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء».[١٥]

وقال (ص): «الشفعاء خمسة: القرآن، والرحم، والأمانة، ونبيّكم وأهل بيته عليهم السلام».[١٦]

وقد ذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه في كتاب كشف الشبهات: «أن الشفاعة اُعطيها غير النبيصلی الله عليه وآله وسلم فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والأفراط[١٧] يشفعون، والأولياء يشفعون»[١٨] استناداً الي أحاديث أوردها البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه أيضاً،[١٩] وأحمد في مسنده بهذا المعنى كما يلي:

عن أبي سعيد الخدري، عن النبي«صلّ اللّه‏ عليه وآله و سلّم»، قال: «قد أعطي كلّ نبيّ عطية، فكل قد تعجّلها، وإني أخّرت عطيتي شفاعة لاُمّتي، وإن الرجل من اُمّتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة، وإن الرجل ليشفع لقبيلة، وإن الرجل ليشفع للعصبة، وإن الرجل ليشفع للثلاثة، وللرجلين، وللرجل».[٢٠]

وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأُوا إن شئتم: «إنّ اللّه‏ لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً»، فيقول اللّه‏ عزّ وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون...».[٢١]

المشفوع لهم

وقع البحث بين علماء المسلمين فيمن تكون له الشفاعة، فقالت المعتزلة: إن شفاعة الرسول صلی الله عليه وآله وسلم تكون للمطيعين، لأجل زيادة الثواب وعلوّ الدرجة لهم، ولا يمكن أن تكون للعاصين، للآيات الدالة على ارتهان الإنسان بعمله، ولأن الشفاعة لاتمحو الذنوب. وجاء عن أبي الحسن الخياط ـ أحد أعلام المعتزلة ـ أنه كان يحتجّ على القائلين بالشفاعة بقوله تعالى: « أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ مَن في النار».[٢٢]

وردّ عليه الشيخ المفيد : بأن القائلين بالشفاعة لا يدّعون أن الرسول هو الذي ينقذ المستحقين للنار منها، وإنما يدّعون أن اللّه‏ هو الذي ينقذهم إكراماً لنبيه والطيبين من أهل بيته عليهم‏ السلام.[٢٣]

ورأي جمهور المسلمين أن الشفاعة لأهل المعصية من المسلمين، دون الكفار والمشركين لقوله صلی الله عليه وآله وسلم: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من اُمتي».[٢٤]

وقد استدلّ العلامة الطباطبائي على هذا الرأي بالقرآن الكريم، حيث قال تعالى: « كل نفس بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين* في جناتٍ يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتي أتانا اليقين* فما تنفعهم شفاعة الشافعين»[٢٥] حيث ميّزت هذه الآيات بين أصحاب اليمين وبين المجرمين، وذكرت صفات جرّت المجرمين الى النار وأدّت الى انتفاء الشفاعة عنهم.

ومقتضي هذا البيان، ومن خلال سياق المقابلة والمقارنة والمقايسة، أنّ أصحاب اليمين الذين لم يتصفوا بتلك الصفات قد فازوا بشفاعة الشافعين، وكأن مصير المجرمين كان لأجل سببين، أحدهما: ارتكاب مخالفات أساسية في مقياس الدين، ثانيهما: انتفاء الشفاعة بحق من يرتكب مثل هذه المخالفات.

ومن خلال سياق المقابلة نفهم أن مصير أصحاب اليمين ناتج عن انتفاء هذين السببين، فلم يرتكبوا مخالفات أساسية من جهة، بالنحو الذي جعلهم مشمولين بالشفاعة من جهة ثانية، وإن أمكن حصول مخالفات غير أساسية منهم، وحينئذ يكون معنى الشفاعة مطابقاً لقوله تعالى: « ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم».[٢٦]

فان السيئات مع الاستمرار تتحول الى كبائر، وبذلك اتّضح: أن الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين. وقد قال النبي (ص): «انما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمتي أما المحسنون فما عليهم من سبيل».[٢٧]

وبالتطبيق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى: « ولا يشفعون إلا لمن ارتضي»[٢٨] يعتقد قدس سره أن أصحاب اليمين هم الذين ارتضى اللّه‏ سبحانه الشفاعة لهم، وأن الارتضاء المذكور في الآية ليس ارتضاءً للعمل، لأن بعض أعمال المشفوع لهم سيئة غير مقبولة، فلابد أن يكون معنى الارتضاء هو ارتضاء الدين، بمعنى كون دين المشفوع لهم مستوفياً للشروط الأساسية المطلوبة.

شبهات وردود

وفي ضوء ما سبق نستطيع أن نجيب على عدّة شبهات اُثيرت حول الشفاعة هي:

  • الشبهة الأولى

إنّ الشفاعة تعني خضوع اللّه‏ سبحانه لتأثير مخلوق من مخلوقاته.

والجواب: إن المغفرة الإلهية لها عدّة أسباب، منها: الدعاء، والتوبة، والشفاعة.. وكما أن قبول الدعاء والتوبة وتحقق المغفرة بهما، لا يعني خضوع الخالق للمخلوق، وإنما يعني إفاضة الرحمة الإلهية على العبد بعد تحقق شرطها وبنحو قرّره اللّه‏ سبحانه نفسه ولم يفرضه أحد عليه، كذلك الشفاعة سبب علّق عليه الخالق سبحانه إفاضة الرحمة على عباده، وهذا التعليق جاء لغرض تربوي يتمثل بتوثيق صلة الناس بالأنبياء والأولياء وتوكيد موقعهم كقدوة وقطب وقائد للمجتمع البشري.

وما دام أنّ اللّه‏ سبحانه هو الذي فتح باب الشفاعة وهو الذي عيّن الشفعاء وحدّد خصائص ونوعية المشفوع لهم فلا يبقي أي أساس لهذا الإشكال.

  • الشبهة الثانية

إن اللازم من الشفاعة أن يكون الشفيع أكثر رحمة وشفقة من اللّه‏ سبحانه وتعالى.

الجواب: قد اتضح مما تقدم أنّ اللّه‏ هو الذي جعل الشفاعة وأذن بها لمن شاء. فالشفاعة ليست مبادرة يقوم بها الشفيع بنحو مستقل عن الإرادة الإلهية، وإنّما هي باب فتحه اللّه‏ وحدد شروطه وأشخاصه ليفيض رحمته على عباده عبر الشفعاء، فشفقة الشفعاء شعاع مستعار من تلك الشمس.

  • الشبهة الثالثة

إن الشفاعة تعني وجود حكمين مختلفين للعبد: حكم قبل الشفاعة، وهو العقوبة بالعذاب، وحكم بعد الشفاعة، وهو النجاة والفوز بالنعيم. فإن كان الأوّل هو الموافق للعدل والحكمة كانت الشفاعة أمراً مخالفاً للعدل، وإن كان الثاني هو الموافق للعدل والحكمة كان الأوّل ظلما.

الجواب: إنّ لهذه الحالة نظائر، ومن نظائرها نزول البلاء على العبد قبل الدعاء، أو قبل إعطاء الصدقة، أو قبل صلة الرحم، وارتفاع البلاء عنه بعد تحقق الدعاء، أو الصدقة أو صلة الرحم منه . والحكمة قائمة في نزول البلاء وفي ارتفاعه بتلك الأسباب معاً، والأمر كذلك في الشفاعة.

بمعنى أنّ الذنب الصادر من المؤمن لا يشكّل علّة تامة لوقوع العقاب، بحيث لا يمكن أن ينفك العقاب عنه، وإنّما يشكل مقتضياً للعقاب، فإذا حصل ما يمنع وقوعه لم يقع، وقد وضع اللّه‏ تعالى مواضع لوقوع العقاب، كالتوبة، والشفاعة، والأعمال التي تكفّر الذنوب، فإذا حصل شيء من هذا القبيل امتنع تحقق أثر الذنب.

ويمكن أن يقال: بأن الحكم بالعقوبة قبل الشفاعة موافق لعدل اللّه‏ ولعمل العبد واستحقاقه، والحكم بالنجاة بعد الشفاعة موافق لرحمة اللّه‏ وشفقته ورأفته.

  • الشبهة الرابعة

إنّ الوعد بالشفاعة موجب لجرأة الناس على المعاصي.

وجوابه: إنّ الأمر إذا كان كذلك فلابد من غلق باب التوبة ورجاء الرحمة الإلهية، فإن حكمة اللّه‏ شاءت أن يفتح أبواب الأمل بوجه العاصين من عباده، لكي تبقى لهم بقية ارتباط معه ولا يقعون ضحية اليأس والقنوط الذي يؤدي بهم إلى المزيد من التردي والانحطاط .

وسوف لا يكون في الشفاعة ـ كما في المغفرة وقبول التوبة ـ إغراءٌ بالذنوب والمعاصي بحال من الأحوال، وإنّما هي منافذ للرجاء والأمل، وذلك لأمرين:

  • أحدهما: إنّ الوعد بالشفاعة لم يعيّن أشخاص المذنبين الذين ستُقبل فيهم الشفاعة، فما زال العباد إذاً يرجون أن ينالوها، وليس أكثر، ومن هنا دخلت في الدعاء على هذا النحو، كما في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام : «وشفِّع فيَّ محمداًصلی الله عليه وآله وسلم و[[أهل البيت عليهم السلام|آل محمد]]، واستجب دعائي...».[٢٩]
  • والثاني: إنّ المولى تعالى لم يحدد أنواع الذنوب التي تقبل فيها الشفاعة، ولم يصرّح بمستوي تأثير الشفاعة، فهل أنها ستزيل كل ألوان العقاب أصلاً، أم لا ؟ من هنا فالأمر لم يخرج عن دائرة الرجاء الى دائرة الإغراء.
  • الشبهة الخامسة

إنّ الشفاعة الجائزة هي أن يدعو المؤمن قائلاً: «اللهم شفّع نبيّنا محمداً فينا يوم القيامة»، ولا يجوز له أن يقول: يا رسول اللّه‏ اشفع لي يوم القيامة. لأنه من الشرك في العبادة الذي يشبه عمل عبدة الأصنام الذين كانوا يقولون: « هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه‏»[٣٠] وأن اللّه‏ يقول: « لا تدعوا مع اللّه‏ أحداً»، وبالتالي فالشفاعة بالصيغة الثانية تكون من قبيل طلب الشفاعة من غير مالكها، وأن طلب الشفاعة من الميت أمر باطل.

وجوابه: إن الشرك في العبادة يقوم على ركنين هما:

  1. اعتقاد التدبير والخلق فيمن يُتخذ إلهاً، أو الاعتقاد بأن اُمور الخلق والتكوين قد فوّضت إليه.
  2. إبداء الخضوع والتسليم للذات المتخذة إلهاً كتعبير عن العبادة لها. وطلب الشفاعة من الرسول صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم والأولياء يفتقد هذين الركنين، فليس هناك اعتقاد بقدرة ذاتية في الرسول صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم على التدبير والخلق، وليس هناك اعتقاد بأن الاُمور قد فوّضت إليه، وليس هناك خضوع وتسليم له بما هو شخص وإنسان، وكل ما هناك أن للرسول صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم عند اللّه‏ مكانة ومنزلة رفيعة بحيث جعل له أن يشفع لاُمته.

والآية الواردة في الاشكال بدايتها هكذا: « ويعبدون من دون اللّه‏ ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه‏»، فالشفاعة الشركية الباطلة جاءت مقرونة بعبادة الأصنام، متفرعة عليها، ومن هنا جاء بطلانها، وليس الأمر في طلب الشفاعة من الرسولصلی الله عليه وآله وسلم مقروناً بعبادته حتى يكون باطلاً.

ثم إنّ المعيار في الحكم بالصحة والبطلان ليس هو المشابهة الصورية بين فرض وفرض آخر، ولو كان الأمر كذلك لكان السعي والطواف ونحوهما من جملة مظاهر الشرك، لأن المشركين كانوا يقومون بهما.

وأما قوله تعالى: « لا تدعو مع اللّه‏ إلهاً آخر» فالجواب فيه نفس ما مضى، وهو أن الآية ناظرة ال ما كان من الدعاء بنحو العبادة، واذا كان الداعي يخاطب رباً وإلهاً، فجاءت الآية لتنهى عن عبادة غيراللّه‏ سبحانه وتعالى‏ في باب الدعاء، وليست ناظرة الى كل طلب من كل مطلوب، ولو كانت بهذا المعنى لكانت ناهية عن شيء هو قوام الحياة الاجتماعية بحيث لا يمكن افتراض قيام الحياة الاجتماعية بدونه وهو التعاون، وهل يعقل أن ينهي الشرع عن طلب يتقدم به المسلم لدي مسلم آخر ويريد منه إنجازه ؟ وهل يسمي هذا النوع من السلوك دعاءً لغير اللّه‏؟

قد يقال: إنّ الشفاعة ليست من هذا النوع، وإن وجه الإشكال فيها أنها طلب شيء من خصوصيات الإله والمعبود، وأن الآية ليست ناهية عن كل طلب، وإنما هي ناهية عن طلب ما كان من خصوصيات الاُلوهية، وأن هذا النوع من الطلب من مصاديق دعوة غير اللّه‏ سبحانه.

والجواب: إنّ طلب الشفاعة من الرسول صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله ‏وسلم لا يراد بها إضفاء خصوصية الاُلوهية عليه صلی الله عليه وآله وسلم حتى يكون من قبيل دعوة غير اللّه‏ سبحانه، بل لمّا ثبت أن اللّه‏ سبحانه وتعالى قد أذِن للرسول (ص) بالشفاعة جاز لنا أن نطلب ذلك منه، كما نطلب حاجتنا من كل قادر عليها، وهو طلب يؤكد التوحيد وليس فيه شائبة من الشرك، لأنه ينتهي الى إذن اللّه‏ سبحانه. وإنّما أبطل اللّه‏ الشفاعة الشركية بقوله تعالى: « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه‏» لأن هذه الشفاعة لا تنتهي الى إذن اللّه‏ سبحانه، فإن اللّه‏ لم يأذن في شفاعة هؤلاء، ولم يجز للإنسان أن يختار شفعاءه بنفسه، وإنما أجاز له أن يطلب الشفاعة ممن هو مأذون من قبله تعالى في ذلك، وشفاعة الرسول صلى الله ‏عليه ‏و‏آله ‏وسلم من هذا القبيل .

وأما قولهم: «إنّ طلب الشفاعة من الرسول (ص) طلب لها من غير مالكها» فقد اتضح جوابه، فإن المالك الحقيقي للوجود هو اللّه‏ سبحانه وتعالى، وكل مالك عداه إنّما يملك بالملكية الاعتبارية الصورية، فإن كان الغرض من هذا الاشكال عدم جواز طلب شيء إلا من مالكه الحقيقي وهو اللّه‏ سبحانه وتعالى، فهذا المعنى يلزم منه إبطال الحياة الاجتماعية القائمة على التعاون والتبادل وطلب الأشياء ممن يملكها بالملكية الاعتبارية، وطلب الشفاعة من الرسول صلي‏ الله ‏عليه ‏و‏آله‏ وسلم طلب لها من مالكها الاعتباري، بعدما ثبت أن الرسول صلي‏ الله ‏عليه ‏و‏آله‏ وسلم مأذون من قبل اللّه‏ سبحانه في الشفاعة لاُمته، وإذا كان طلب الأشياء ممن يملكها بنحو الملكية الاعتبارية باطلاً وشركاً، فلتتوقف الحياة الاجتماعية لأنها حياة لا تقوم إلا بما هو شرك باطل!!

طلب الشفاعة من الميت

وأما قولهم الأخير بأن: «طلب الشفاعة من الميت أمر باطل وأن شفاعة الرسول صلي‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم من هذا القبيل» فهو أوهن من بيت العنكبوت، وهو لا يتناسب مع إنسان يؤمن بالغيب، وإنما يتناسب مع إنسانٍ مادي يري المادّة خلاصة الوجود وحدّها الأخير، فنحن لسنا ممن يؤمن بأن الجسد هو بداية الإنسان ونهايته، فاذا مات واُقبر واُلحد انتهي كل شيء، وإنما نؤمن بأن الحقيقة الإنسانية متجسدة بالروح، وأن الجسد مظهر مادي لهذه الحقيقة وأن الموت ينال الجسد ولا ينال هذه الحقيقة، هذا بالنسبة لكل إنسان، أما الأنبياء والأولياء المقربون من اللّه‏ سبحانه وتعالي فلأرواحهم شأن خاص ومنزلة خاصة ليس بوسعنا إدراكها، وبالتالي فنحن لا نطلب الشفاعة من الجسد الميت، وانما نطلبها من الروح التي لا تموت، نطلبها من روح إنسان هو أشرف الأنبياء والمرسلين، ولو كانت علاقتنا بالرسول صلي‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم علاقة بجسد ميت فما معني سلامنا عليه في الصلوات اليومية الخمسة؟ وما معنى شهادة الرسول صلي‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم علينا وعلى أعمالنا كما هو صريح القرآن الكريم؟

وبعد كل هذا فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلي ‏الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم أنّه علّم بعض أصحابه التوسل به وطلب الشفاعة منه، وذلك في المشهور من قصة الأعمى الذي شكى الى النبي صلي‏ الله ‏عليه ‏و‏آله ‏وسلم حاله، فأرشده أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يقول بعدهما: «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول اللّه‏، إنّي أتوجه بك الي ربّي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفّعه فيَّ» فعل ذلك فردّ اللّه‏ إليه بصره. وقد نقل ابن تيمية نفسه هذه القصة ونقل عن الكثير من السلف العمل بهذا الدعاء في حياة النبي وبعده.[٣١]

الهوامش

  1. يونس: 18
  2. البقرة : 48
  3. الانعام : 51
  4. الزمر : 44
  5. البقرة : 255
  6. الأنبياء : 28
  7. الشعراء : 100
  8. هود: 106 ـ 108
  9. الزمر: 44
  10. يونس: 18
  11. مريم : 87
  12. النجم : 26
  13. الزخرف : 86
  14. سورة الأحزاب: 32
  15. سنن ابن ماجة : ج 2 : 3 144 : 4313
  16. كنز العمال: 1 : 390
  17. الأفراط: المتقدّمون الى الشفاعة، راجع لسان العرب مادة فرط
  18. كشف الشبهات : 70
  19. صحيح البخاري 9: 798 ـ 800، كتاب التوحيد، باب وجوه يومئذٍناظرة، ح 2239، ط دار القلم
  20. مسند أحمد بن حنبل: 3:397، مسند أبي سعيد الخدري، ح 10764
  21. صحيح مسلم : 1:116، كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية، ذيل الحديث
  22. الزمر: 19
  23. الفصول المختارة ص 78 ط . دار المفيد
  24. مجمع البيان : 1 : 104
  25. المدثر : 38 ـ 48
  26. النساء : 31
  27. تفسير الميزان 1: 170. طبعة الأعلمي بيروت
  28. الأنبياء : 28
  29. الصحيفة السجادية الطبعة المحقّقة 2: 282
  30. يونس : 18
  31. انظر: التوسل والوسيلة لابن تيمية: 97 ـ 106